تعتبر البلاد التونسية من بين أثرى بلدان العالم تراثا و من أكثرها مواقع تاريخية حيث لا تكاد تخلو ولاية من ولاياتها و لا مدينة من مدنها من موقع تاريخي أو معلم أثري شهير. لعل معتمدية غمراسن بولاية تطاوين من أكثر المناطق ثراء و تنوعا إذ تتميز بتعدد المواقع الأثرية و عراقة الحضارات التي مرت بها و قدمها و تنوع الآثار و المعالم التي تتميز بالتفرد و الندرة مما يجعلنا نعتبرها دون مبالغة نموذج مصغر عن تاريخ تونس حيث نجد بها: . مواقع الجيولوجية التي تعود لمئات ملايين السنين و التي اكتشفت بها بقايا لهياكل عظمية للدينصورات و حيوانات بحرية و نباتات متحجرة تعطينا لمحة عن تاريخ التكون الجيولوجي و فكرة عن تطور الكائنات الحية. . رسوم جدارية داخل مغارات و ملاجئ صخرية رسمها الإنسان البدائي خلال العصور الحجرية منذ ما يقرب من 6000 سنة يجسد من خلالها مشاهد من حياته اليومية كالصيد و يعدد بها الحيوانات التي عاشت في تلك الحقب في الجنوب التونسي من زرافات و فيلة و غيرها. . تحصينات عسكرية و ضيعات فلاحية و منشئات مائية تعود للحضارة الرومانية يعود تاريخها ل ما يزيد عن 2000 سنة و لعل أبرزها على الإطلاق بقايا حائط حدودي تتوسطه بوابة يفصل بين الأراضي المرومنة و بين القبائل غير الخاضعة للرومان و يمثل جزء من « Limes Tripolitanus » أو الحدود الجنوبية للإمبراطورية الرومانية التي تمتد من ليبيا إلى الجزائر مرورا بتونس. . عديد القرى البربرية التي شيدها الأمازيغ على قمم الجبال منذ قرابة 1000 سنة و نحتوها في للجبل لاتخاذه سكنا و حصنا من الغزوات, لعل من أبرزها و أكثرها حفاظا على طابعها المعماري قرية قرماسة. إضافة إلى القصور الجبلية و السهلية التي بنتها القبائل العربية منذ بضعة قرون و تتميز بالعظمة و الدقة و تحدي الزمن من أجل اتخاذها كحصون و كمخازن للمنتجات الفلاحية. كل هذا الموروث الحضاري الثري عددا و المتنوع شكلا و كيفا و الفريد نوعا يعاني من النسيان حيث أن القليل من أبناء الجهة يعلمون بتفاصيله و خاصياته و يعاني من الجهل و التجاهل من مؤسسات الدولة كما يعاني خاصة من الانتهاكات التي تعددت و تنوعت بدورها حسب نوعية التراث و حسب فئة المنتهكين إذ يمكن التمييز بين نوعين من الانتهاكات: . النوع الأول انتهاكات قام بها مواطنون حيث ان غمراسن كبقية مدن الجمهورية و جهاتها شهدت تطورا كبيرا في عمليات البحث عن الكنوز التي كانت حكرا على بعض المتنفذين من النظام السابق و العصابات التي كانت تحتكر التنقيب و تقوم به تحت غطاء من مؤسسات الدولة و أجهزتها و الآن أصبحت في متناول الجميع شيبا و شبابا فرادى و عصابات ولم يسلم منها ولو موقع واحد كما أن التنقيب يتم بصفة عشوائية دون معرفة بطبيعة الموقع أو إمكانية احتوائه على كنوز من عدمها و ليس لها حدود حيث طالت القصور و القرى الجبلية بهدف سرقة ما بها من أدوات تراثية, و شملت المواقع الرومانية بهدف استخراج الكنوز أو منحوتات و قطع نقدية و لم تستثنى حتى حرمة الموتى في مقابرهم أو الأولياء الصالحين في زواياهم. وقد نجد لهذه الممارسات تفسيرا و لكنه قطعا ليس تبريرا يتمثل في الطمع و الرغبة في الثراء السريع و عدم الوعي بالقيمة التاريخية و الحضارية لهذه المواقع. لكن ما لا يمكن تفسيره و لا قبوله هو ما يتناهى إلى مسامعنا و ما خلصنا إليه بحكم تجربتنا في جمعية صيانة التراث بغمراسن من تهاون من السلط المحلية و الجهوية في مقاومة هذه الظاهرة و هو تهاون يصل في بعض الحالات حد التواطؤ و المشاركة. . أما النوع الثاني من الانتهاكات فهي انتهاكات لطالما قامت بها الدولة بنفسها من خلال المؤسسات العمومية و لازالت تقوم بها إلى حد الآن حيث لم يكفها التقصير في حماية التراث و صيانته و استغلاله في التنمية السياحية و الثقافية بل تجاوزت إلى انتهاك المعالم من أجل إقامة مشاريع عمومية في بعض الأحيان غير ذات جدوى أصلا و الأمثلة على ذلك عديدة : – في الثمانينات من القرن الماضي إقامة محطة للإرسال الإذاعي تحتوى حاملا ضخما للهوائيات " Pylône " يتجاوز 80 متر ارتفاعا في ساحة القصر الأثري بالرصفة و قد تم إزالة بعض الغرف لأجل بنائه. – في أواخر التسعينات إزالة حي أثري بأكمله يحتوي مئات من الغرف و الغيران السكنية و معاصر الزيتون ويقع في سفح جبل ابن عرفة ضمن قصر بوغالي الذي يعود تاريخه لما يقارب 1000 سنة حيث قامت البلدية آنذاك بسحقها بالآلات الجارفة " Beldozeur " من أجل إقامة مشروع منتزه وهمي لم يرى النور إلى اليوم. – في شهر ماي 2016 إزالة غرف و معصرة زيتون في حي زغدان في نفس الموقع من قبل مقاول أشغال عامة من أجل بناء مدرج يصعد إلى قمة الجبل حيث جامع الإمام ابن عرفة الورغمي فالهدف من المشروع تثمين الموقع الأثري لكن و يا للمفارقة فالوسيلة هي هدم جزء من نفس الموقع و كل هذا ضمن مشروع التنمية المندمجة الذي تشرف عليه مصالح وزارة التنمية بالجهة بتمويل منها. – في شهر نوفمبر 2016 إزالة جزء من البوابة التي تمثل جزءا من حدود الإمبراطورية الرومانية و ذلك من أجل تعبيد طريق فلاحية و رفع الحجارة المكونة للحائط من طرف المقاول و ذلك تحت أنظار و بعلم من إدارة التجهيز و الإسكان و دون أي تدخل منها. – في نوفمبر 2016 إزالة غرف أثرية في قلب قصر بغالي من قبل بعض المواطنين لإقامة و حدات سكنية عصرية و ذلك بتمويل في إطار المساكن الاجتماعية بعلم من المعتمدية و البلدية التي أصدرت قرار هدم لكنها تتلكأ في تنفيذه بحجة الحالة الاجتماعية الصعبة للمنتهكين مما يشجع المواطنين على احتلال الغرف و هدمها و بناء مساكن عصرية مكانها. لئن كان النوع الأول من الانتهاكات يعبر عن جهل المنتهكين و جشعهم فان النوع الثاني يدل على لامبالاة و استهتار السلط الجهوية و الإدارات العمومية و القائمين عليها بالتراث و الآثار و عدم كفاءتهم و عدم حرصهم على احترام اثار تونس و موروثها و الحضارات المكونة لهويتنا و مصدر فخرنا و اعتزازنا و تميزنا. أمام هذه الانتهاكات التي ترقى إلى حدود الجرائم في حق تونس و حضارتها لم تقف جمعية صيانة التراث بغمراسن مكتوفة الأيادي بل قامت بتوثيق هذه الانتهاكات و الاحتجاج لدى السلط المحلية و الجهوية من أجل حثها على التدخل و وضع حد لها و محاسبة مرتكبيها و ووضع برامج و إيجاد تمويلات من اجل صيانتها و حمايتها إلا أنها كانت في كل مرة تلقى وعودا و تطمينات و تظاهرا بالاهتمام و القلق لكن و كما قال الشاعر: قد أسمعت إن ناديت حيا لكن لاحياة لمن تنادي. عمر غراب .