كنت أمام دار الاتحاد مع الساعة الثامنة والنصف صباحا ولا تزال قرابة ساعة ونصف لبداية المسيرة… في الطريق إلى ذلك المكان كانت أصوات أجهزة لاسلكي البوليس تطغى حتى على أصوات السيارات التي لم تكن كثيفة كعادتها بما أنه يوم إضراب جهوي عام، الكل يتابع الكل وكل طرف خائف من الآخر أمن ومواطنون… أغلب المحلات والمقاهي كانت مغلقة.. هدوء صباحي غير عادي كأنه يوم عطلة ولكن ترى في كل مرة فوجا من مواطنين يذهب في نفس الاتجاه.. دخلت مقهى الاتحاد الوجوه هي نفسها لسنوات خلت لكن ترى فيهم نفسا جديدا وشجاعة أقوى … أمام المقر الجهوي تتكاثر الجموع وللتاريخ طغى في بادئ الأمر حضور المربين وممثلو الاتحاد العام لطلبة تونس وقد يعود ذلك إلى توقف الدروس بالمؤسسات التربوية والجامعية مع وجود عديد المعطلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا بما أن هم الطرف الرئيسي في الاحتجاجات القائمة في البلاد… ثم في كل مرة يأتي فوج من قطاع ما أو شركة وكان أكثر التفاعل مع وصول قطاع الصحة والمحاماة وعمال شركة السياب… قبل نصف ساعة من الحضور امتلأت كل الشوارع والأنهج من أمام دار الاتحاد ووصلت حدود المحتجين إلى نزل الزيتونة من جهة اليسار وإلى مقهى الفيراندا من جهة اليمين في حين الأنهج المقابلة غصت بالمتظاهرين بأكملها… وانطلقت المسيرة باتجاه الكورنيش ومن وراء عمارة المنار ثم من أمام المكتبة العمومية وعمارة الانطلاقة وخلال ذلك رفعت شعارات مثل "خبز وماء وبن علي لا" "من بنزرت لبن قردان شعب تونس لا يهان" "بن علي يا جبان شعب تونس لا يهان" "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" "يسقط جلاد الشعب يسقط حزب الدستور" … وتوقفت في ساحة الشهداء باب القصبة (حديقة داكار) أين تم قراءة الفاتحة على أرواح شهداء الانتفاضة من 17 ديسمبر إلى ذلك اليوم… وأثناء هذا التوقف كان في المفترق الدائري بين الاعدادية النموذجية وحديقة داكار والمدينة العتيقة فرق كبيرة من الأمن منعت المحتجين من الوصول إلى الولاية فتغير مسار المسيرة نحو باب الديوان حاول خلالها أعضاء من الاتحاد الجهوي للشغل عدم وقوع أي مناوشات مع الأمن لكن هذا الأخير أطلق عبوة واحدة من الغاز المسيل للدموع أفقيا أي في مستوى منخفض رغم قرب المسافة من المواطنين فأصابت طفلا صغيرا في رأسه ليتم حمله عبر سيارة إسعاف ولنعرف من الغد أن ذلك الطفل قد استشهد ويحمل من الاسم " عمر الحداد"، إذا بعد هذه الحادثة ازداد غضب المتظاهرين ورفعت شعارات أكثر حدة وأشهرها "ديقاج بن علي" ولتمر الحشود من أمام باب الديوان وصولا إلى مفترق شارع الجيش ثم من أمام محكمة الاستئناف رجوعا إلى مقر الاتحاد الجهوي للشغل من أمام مقهى فاردي verdi … وأمام دار الاتحاد وقع تجمع ضخم لكل المتظاهرين وصعد الكاتب العام الجهوي آنذاك "محمد شعبان" فكان خطابه في مستوى تحرك احتجاجي وسوف يتم إيصال صدى ذلك إلى المركزية النقابية التي ستجتمع مع الحكومة لإيجاد مخرج لهذه الأزمة الاجتماعية… ولكن كنا مجموعة من الشبان والنقابيين الذين رفضوا مضمون ذلك الخطاب واعتبروه هزيلا مقارنة بما يحدث في تونس وبأرواح الشهداء ودخلنا في مناوشات كلامية مع الكاتب العام الجهوي وخرجنا من ذلك التجمهر حينها وجدت اثنين من أبناء حومتي المقربين "مجدي البحري" و"خالد بوبطان" رفقة أحد اخوته، ذهبنا مع الغاضبين من خطاب الكاتب العام الجهوي وقررنا إعادة مسيرة أخرى والوصول إلى الولاية هذه المرة لكن تفاجئنا بالرد البوليسي الذي كان قريبا في محيط الكورنيش والمكتبة العمومية ثم من أمام السوق المركزية ليصوب نحونا أعوان الأمن وابلا من الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي ولم يكن الرد مننا سوى بالحجارة أو إرجاع عبوات الغاز وكنا ننزع كل اللافتات التي فيها صور بن علي وكان سكان العمارة من فوق ستيديو 5 وسكان الانطلاقة يرمون لنا بعلب الحليب للتقليل من تأثير الغاز ومن المشاهد المفزعة التي رأيتها إصابة أحد الشبان بعبوة غاز في عينه مباشرة… تواصلت المواجهات لأكثر من ساعة ونصف ثم انسحب الأمن لتعوضه فجأة جحافل من شاحنات الجيش التي رحب بها المتظاهرون والذين خير عدد منهم الذهاب للتظاهر أمام لجنة التنسيق الممثلة للسلطة وللحزب الحاكم ولكن في الطريق وجدنا مجموعة أخرى تفتح أبواب المستودع البلدي وتقول من لديه دراجة نارية افتكها الأمن فليأتي بأوراقها لتعود إليه… لم يكن هدفنا خلع المستودع البلدي حقيقة بل كان رفع شعارات في وجه الموجودين داخل لجنة التنسيق لكن وجدنا وجوها أخرى أمامها تكسر وتحرق الكل في الكل، في الحقيقة الكثير انتشى بذلك الفعل لأن المكان يرمز إلى الديكتاتورية والقهر لأكثر من خمسين سنة وإجابة لما يفعله بوليسهم بأبناء سيدي بوزيد والقصرين تلك الأيام…