ما قام به السلفيون في دوّار هيشر يُخيف المجتمع وهو مخطط لتكوين إمارة , ويُذكّرنا بالعراق وأفغانستان . وما حدث في هذا الحيّ الشعبي ذي الكثافة السكانية العالية لم يكن مجرّد حادث عابر وإنّما كان بداية لأحداث كانت ستؤدّي إلى ما لا يُحمد عقْباه هذا الكلام لم يقله حمّه الهمامي ولا شكري بلعيد ولا نجيب الشابي أو ميّة الجريبي أو أيّ وجه من وجوه “اليسار الشيوعي” والعلمانيين المتغرّبين , بل جاء على لسان رئيس الحكومة المؤقتة وأمين عام حركة النهضة السيد حمادي الجبالي في حوار خصّ به قناة العربية التلفزية والكلام على وجاهته ووضوحه يصبح على درجة من الأهمّية حين يأتي علنا على لسان المسؤول الأول في الدولة بعد أنْ تداوله قبله معظم الفاعلين السياسيين في البلاد بمن فيهم شركاء النهضة في الحكم , وهو بذلك يمكن قراءة أبعاده على مستوييْن اثنيْن : المستوى الأول يقول إن خصالَ رجل الدولة تقتضي الكثير من الدراية والحنكة في معالجة الملفات وخاصة الحارقة منها , والتحلّي بصفات نكران الذّات والابتعاد أقصى ما يمكن عن الحسابات الضيّقة السياسوية والحزبية وتغليب الصّالح العام عن أيّ مصلحة أخرى ومن هنا يأتي حرصُ كبار السياسيين في الدول الديمقراطية على التخلّي عن المسؤوليات الحزبية حال تعيينهم في مناصب حكومية , وهو ما يُعبّر عنه اختصارا فصل الحزب عن الدولة الذي اكتوى التونسي بنيران دمجهما لعقود طويلة وفي واقعنا التونسي ورغم أن السيد حمادي الجبالي لم يتخلَّ عن صفته الحزبية فإنه رغم تعثّر أداء حكومته لأسباب متنوّعة فيها الذاتي وفيها الموضوعي وقلّة خبرة العديد من رموزها , فقد أظهر في أكثر من مناسبة الكثير من صفات رجل الدولة المسؤول لعلَّ آخرَها ما ورد على لسانه أعلاه , وحضوره مؤتمر الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل رغم مقاطعة حركة النهضة له , ثمّ وهذا الأهم كَشَفَ عمّا كذّبه العديد من أعضاء حكومته من وجود مخطط سلفي مُحكم التنظيم للتمكّن من أوصال الدولة انطلاقا من حادثة دوّار هيشر والموقف بعد هذا قد يُقرأ أيضا انطلاقا من صراع “تيّار الحمائم” أصحاب الشرعية السجنية الذي يمثّله حمادي الجبالي , و”تيار الصقور” أو الشرعية المهجرية الذي يمثّله راشد الغنوشي داخل حركة النهضة , وهو صراع يُنكره كل النهضويين تقريبا , ويُقرّ به الكثير من العارفين بدواليب صناعة القرار في مقرّ مونبليزير . وفي هذه الحال ينطوي كلام الجبالي على الكثير من فرضيات الصراع داخل النهضة سواء على مستوى التّياريْن أو بينه وبين الغنوشي , خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار كلاما سابقا للأول من أنّه كاد أنْ يقدّم استقالته من رئاسة الحكومة , وأنّ استقالتَه هي في كل الأحوال يحملها دائما في جيْبه أمّا المستوى الثاني لما ورد على لسان السيد حمادي الجبالي في حديثه لقناة العربية فهو يصُبُّ في ماهية الكلام نفسه والذي حذّرت منه أغلب أطياف المشهد السياسي في البلاد , حين ارتفعت الأصوات مُطالبةً الدولة القيامَ بواجبها وقد بدأت الأخبار المحلية والدولية تتحدّث عن مسعى سلفي لبعث “إمارة إسلامية” في سجنان إلاّ أنّ تراخي الداخلية ومن ورائها الحكومة والحزب المُهيمن فيها على الوقوف الحازم أمام بوادر العنف الكلامي المُهيّء للعنف المادّي والذي كلّفنا أحداث بئر علي بن خليفة والعبدلية ثم السفارة الأمريكية مرورا بسوسة وقابس وتطاوين , أوصلنا إلى أحداث دوّار هيشر , والذي كشفت القنوات التلفزية –وهذه تُحسب لها وليس عليها- على الوجه الخطير لمخطط التيّار السلفي المتطرّف الذي يُفتي بأن هذه الأرض أرضَ جهاد ضد “الطواغيت” كما ورد على لسان الإمام صاحب الكفن ومن بعده الإمام الذي عيّنه “الأخوة المصلّون” والمحصّلة بعد هذا أن تحذيرات المعارضة من خطورة الظاهرة السلفية العنيفة ليس فزّاعة أو محاولة اختلاق أعداء وهميين , بدليل اعتراف رئيس الحكومة بدرجة خطورتها على النمط المجتمعي التونسي وغرابتها عن مخيّلة كل التونسيين وفي العُرف القانوني يُقال الاعتراف سيّدُ الأدلّة , وما ننتظره بعد هذا هو حوار وطني جامع حول الظاهرة السلفية الواردة علينا من صقيع الفكر الوهّابي وقنوات الارتزاق بديانة المسلمين , يُعْطي لمن يؤمنون بالفكر والحرية حقّهم في نشر معتقداتهم , ويُحيل من يسعى إلى تغيير عقائد الناس بالقوة ويكفّر الآخرين ويرفع في وجه المجتمع عصا التمرد والخروج على القوانين , إلى وزارة الداخلية ومن بعدها إلى القضاء ليقول فيهم كلمتَه …