تأجلت الانتخابات البلدية كما كان منتظرا، ومن بين الأسباب الرئيسية، غير المعلنة خاصة بالنسبة للأحزاب "الصغيرة"، عدم جاهزيتها. بمعنى آخر عدم قدرتها تقديم قائمات على مستوى جميع البلديات التي يقارب عددها 350 بلدية على كامل تراب الجمهورية بعدما كان 260. كما أن الأحزاب "الكبيرة"، أقرّت بدورها أن ليس لديها قائمات في بعض البلديات، خاصة في المناطق الريفية والبلديات التي وقع إحداثها مؤخرا. من هنا أصبح واضحا وجليا أن الترشح على مستوى جميع البلديات أمرا شاقا، إن لم يكن مستحيلا لجميع الأحزاب "الكبيرة والصغيرة" على حد سواء. فلماذا لا نسلك طريقا آخرا لتجاوز هذه الإشكاليات من خلال مراجعة طريقة الانتخاب ؟ كيف ذلك ؟ في الانتخابات يوجد طريقتين رئيسيتين، إما التصويت على القائمات أو التصويت على الأشخاص. القانون الحالي المتعلق بالانتخابات اعتمد طريقة التصويت على القائمات. وهذا يفضي إلى الأمر الآتي : كل من يريد الترشح، فإما أن يكون متحزبا ويترشح باسم حزبه في القائمة المتفق عليها (وهذا منطقي)، أو يكون المترشح مستقلا ويندمج في قائمة تابعة لحزب من الأحزاب، ممّا يؤدي ضمنيا إلى "الإنخراط" في الحزب، بطريقة أو بأخرى. كما أن المستقل (الذي يرغب في الترشح)، والذي يريد البقاء على مسافة من الأحزاب يمكن له أن يكوّن قائمة مستقلة وعليه إذا تذليل الصعوبات، نذكر من بينها : البحث على أشخاص تتوفر فيهم العديد من الشروط، منها السن والجنس، والإقامة والاستقامة (ليست ضده أحكام جزائية..)، ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة. أضف إلى ذلك بعض الصعوبات المتعلقة بالمعطيات الشخصية أو الذاتية للمترشحين. حيث يجب البحث عن من هو أهل للثقة (وهذه أبجديات العمل المشترك لوضع برامج وتصورات…)، ومتحمس للعمل البلدي، وتقاسم بعض المبادئ والأفكار وهذا ضروري لتجنب الخلافات، أي مثلا أن يكون ليبراليا أو محافظا أو شيوعيا أو اشتراكيا أو قوميا أو بدون توجه إيديولوجي…، دون أن ننسى الأخذ بعين الاعتبار التمثيل الجغرافي للبلدية، أي أن لا يكون كل المرشحين في القائمة (المستقلة)، من نفس الحي لضمان أسباب الفوز…أضف إلى هته المسائل تمويل الحملة الانتخابية. فيجب على القائمة (المستقلة) أن تبحث على طرق تمويل ذاتية (في غياب التمويا العمومي). فكيف للمستقل أن يلبّي كل هذه الشروط…؟ المسألة لا تخلوا من التعقيدات كما نلاحظ. وتكوين قائمة مستقلة اعتمادا على القانون الانتخابي الحالي تكاد تكون تعجيزية للمستقلين، وهذا ما يؤكد أن الأحزاب السياسية وضعت قانون الانتخابات على المقاس. فلماذا لا نعتمد إذا طريقة أسهل، وهي الإنتخابات على الأشخاص ؟ هذه الطريقة لا تقصي مبدئيا أحد. كل مواطن تتوفر فيه الشروط التي يضبطها القانون الانتخابي وهي ليست معقدة، يستطيع أن يقدم مطلب ترشح. ويقع تسجيل جميع المترشحين في قائمة واحدة وعلى الناخب (يوم الإقتراع) أن يختار من بين المترشحين من يراهم الأصلح والأجدى. فيستطيع أن يمزج بين سياسيين من كل الأطياف، كما يستطيع أن يصوت للون سياسي واحد أو ينتقي الكفاءات، أو يخلط بين الكفاءات والسياسسين، كما له الحق أن يصوت بالتساوي بين الرجال والنساء، أو يغلّب أحد الأطراف… فالاختيار حر، بينما في الطريقة الأخرى (الانتخاب على القائمات)، التصويت يكون على القائمة (التي وضعها الحزب) بتمامها وكمالها، فعلى الناخب إلا وضعها في الصندوق. إذا طريقة الإنتخابات على الأشخاص تضمن لجميع المواطنين الفرصة للترشح وتساوي بينهم (متحزبين ومستقلين، نساء ورجالا كبارا وصغارا)، وهي بذلك أقرب للديمقراطية المحلية من الطريقة الأخرى (يعني الإقتراع على القائمات)، التي هي شبه حكر للأحزاب. كما أن الإنتخابات على الأشخاص تسحب من الأحزاب ذريعة عدم جاهزيتها…وبالتالي تفرض نوعا من الانضباط السياسي والقانوني. وتساهم في الإسراع لبناء العديد من المؤسسات الدستورية الضرورية لاستكمال الانتقال الديمقراطي الذي يسير ببطء كنتيجة للصراعات بين الأحزاب. وزيادة على ذلك فإن الإنتخابات على الأشخاص يمكن أن تكون حافزا للمواطنين الذين ساهموا في الانتخابات (كمترشحين مستقلين)، ملامسة العمل البلدي، حتى في صورة عدم الوصول إلى المجلس البلدي، فهي نقطة بداية للمواطن للوعي بضرورة التشارك. فللمواطن دور رقابي وتشاركي بعد الانتخابات، وهذه هي المكاسب الحقيقية للثورة (وقد استجاب دستور 2014 لهذه المطالب وكرسها في العديد من الفصول)، أي غرس مفهوم المواطنة التي هي بمثابة شريان وروح السلطة المحلية. ويتجسد ذلك عبر قنوات المجتمع المدني (جمعيات، نقابات، هياكل مهنية وأفراد…)، و لا يقتصر إذا دور المواطن "السلبي" على الإدلاء بصوته ثم ينتظر إلى الانتخابات القادمة ثم القادمة… وهكذا دواليك. هذه الطريقة من شأنها كذلك ترغيب المواطنين للذهاب إلى مراكز الاقتراع والمساهمة في العملية الانتخابية. وهذا يعزز نسبة المشاركة التي تحمل دلالات عميقة، فهي مؤشر ثقة بين المواطن والدولة وتؤسس ديمقراطية حقيقية وشرعية قوية، تفضي إلى تحمل وتقاسم المسؤولية بين الدولة والمواطن والمؤسسات. إن تشريك وتحفيز المواطن ضروري في الانتخابات المحلية خاصة وقد لاحظ أعضاء الهيئة المستقلة للانتخابات أن عملية التسجيل شهدت تراجعا مقارنة بانتخابات 2011 و 2014. اعتماد طريقة الانتخابات على الأشخاص ليست صعبة، هي رهينة إرادة سياسية، وبما أن الانتخابات تأجلت إلى موفى شهر مارس القادم فيمكن لمجلس نواب الشعب أن يتعهد بالعملية ويعيد النظر في بعض فصول قانون الانتخابات مثلما وقع تنقيحه سابقا لإدماج الأمنيين والعسكريين في العملية الانتخابية رغم تحفظ العديد من الأطراف دفاعا على مبدأ حياد المؤسسة الأمنية والعسكرية. فهل تتفاعل الأحزاب السياسية مع هذه المقترحات، أو غيرها، للخروج من عنق الزجاجة كما يقرّ الجميع. وتكون تونس أول بلد عربي يتجه بخطى ثابتة لبناء مؤسسات تستمد شرعيتها من المواطن ومفهوم المواطنة، وتغلق الباب أما المنافذ الخارجية التي تترصد للإطاحة بهذه التجربة التي مازالت تقاوم رغم المناورات والمكائد ؟ أم تراها (الأحزاب)، تواصل حساباتها "السياسوية" الضيقة التي تقدّم مصلحة الحزب على مصلحة الوطن تحت مسميات وتبريرات ومغالطات أصبحت مكشوفة ؟