من يراجع دروس الفلسفة تعود به الذاكرة لأسطورة فرويد Sigmund Freud في جريمة القتل الأولى أو ما سميت بالوليمة الطوطمية في استكشاف المنشأ الأول للحضارة الإنسانية، وتفيد هذه الأسطورة أن جماعة من البدائيين في الغاب الأول، يحكمها أب ذكر قوي، كان قد استحوذ نساء القبيلة جميعهن، وفرض نظاما من التحريم الجنسي الصارم على أبنائه وأفراد العشيرة، وتحت تأثير القمع المستمر، والكبت الشديد لدوافع الأبناء وميولهم الجنسية، غضب الأبناء وثاروا على أبيهم فقتلوه والتهموه، وعلى الأثر، وقع الأبناء في صراع مميت على تركة الأب، فدبت الفوضى بينهم، ونشب الصراع المميت، فاقتتل الأخوة، وهدرت دماؤهم، في ظل غياب سلطة الأب وهيبته والنظام الذي وضعه. و ما يحصل اليوم من صراع وحشي وتقاتل بين إتحاد الشغل و الحكومة التي من ورائها الاحزاب الحاكمة و حتى المعارضة ليس سوى نسخة مطابقة للأصل أو تجسيدا حرفيا لأسطورة فرويد. فلا أحد ينكر أننا شعب شبيه بالبدائيين وابن خلدون لم يكن مخطئا حين نعت العرب بأبشع النعوت و اعتبرهم ابعد خلق الله عن الحضارة و التحضر "فالعرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب" و العرب حسب تعبيره ايضا " أعرق في البداوة وابعد عن العمران الحضري. و لا احد ينكر أننا لم ننعم يوما بالديمقراطية لأنها تقودنا مباشرة نحو الفوضى لذلك كنا دائما نعيش تحت مطرقة تسلط الأب و عنف الدولة. و منذ اليوم الاول لرحيل بن علي إنطلقت مسيرتنا لقتل الاب و الإنتقام منه عن سنوات من الكبت و العنف الذي سلطه علينا و شرعنا في هدم الدولة فكان اعتصام القصبة الذي بشر بالجمهورية الثانية لهدم الأولى و العفو التشريعي العام الذي أطلق سراح الارهابيين ثم تخريب أجهزة وزارة الداخلية و تدمير الادارة التونسية بانتدابات عشوائية اثقلت كاهل ميزانية الدولة ثم تسببت في افلاسها. نجحت الخطة و قتلنا الاب و ماتت الدولة، لكننا بمجرد موتها شرعت الأحزاب في إلتهام الجثة. فبفضل نظام سياسي و انتخابي حيك على المقاس استنزفت كل هياكل الدولة و مواردها وقوتها وحتى هيبتها و سيادتها لفائدة هته الاحزاب وحتى ما تمت تسميته بمؤسسات مستقلة يقع إنتخابها و إختيارها من طرف هته الاحزاب كهيئة الانتخابات و المجلس الاعلى للقضاء و هيئة الحقيقة و الكرامة و هيئة مقاومة الفساد و المحكمة الدستورية فكل هيئة أخرجوها من قبضة سلطة الدولة إلى قبضة سلطة الأحزاب بما في ذلك الإعلام. و بعد أن فرغنا من إلتهام جثة الدولة عمت الفوضى بيننا في صراع بين الأخوة الاعداء (أحزاب و إتحاد الشغل) لتقاسم ما تبقى من تركة المقبورة و المغفور لها " الدولة" فكان لا بد في مرحلة أولى إبعاد الأخ غير الشقيق عن الغنيمة وهو إتحاد الشغل، فلا أحد يشك أن حركة النهضة هي العدو اللدود لهذا الاتحاد تليها بقية الأحزاب اليمينية وقد انطلقت الحرب بينهما منذ الاسبوع الأول بعد رحيل بن علي، ولا أحد منا ينسى الاعتداءات المتكررة للنهضاويين على النقابيين وصلت حد ضربهم ببطحاء محمد علي والقاء الزبالة أمام مقراتهم، لكن في هته الحرب المفتوحة و الاعتداءات غير المبررة كانت الغلبة فيها لاتحاد الشغل الذي تحالف بطريقة ذكية و غير معلنة مع كل القوى الديمقراطية المدنية والسياسية، وكلفت النهضة الخروج من الحكم و اسقاط حكومة علي العريض في حين غنم الاتحاد منها تصدره وادارته للحياة السياسية ضمن الرباعي الراعي للحوار الوطني ثم الفوز بجائزة نوبل للسلام. كانت هزيمة النهضة في حربها مع الاتحاد مدوية وكلفتها خسائر فادحة أهمها الخروج بمظهر الضعيف و الفاشل في ادارة شؤون الحكم. لكن النهضة أجرت مراجعات و تقييما لاخطائها وفهمت الدرس. كانت خلاصة الدرس أن خصمها سواء كان الاتحاد أو حزب سياسي يشكل شيئا مثل الكرة المطاطية كلما حاولت إلقائها بقوة نحو الأسفل الا و إرتفعت أكثر نحو الأعلى. لذلك غيرت أسلوبها بإختراق تلك الكرة من الداخل ثم محاولة نفخها اقصى ما يمكن للزيادة في حجمها الى أن تنفجر. كل ذلك يتم بواسطة أطراف حليفة لها سيطروا على عدة مواقع مهمة داخل المكتب التنفيذي او النقابات الأساسية وأغلبهم من فصائل قومية مثل حركة الشعب، فالنهضة غيرت خطابها مع الاتحاد واصبحت بقدرة قادر من اشرس المدافعين عنه واكثرهم تثمينا لدوره الكبير في المسار الوطني. و للاسف سقط العديد من النقابيين في هذا الفخ، فلقد عمل النقابيون الموالون للنهضة على تضخيم مطالبهم النقابية بل وطالبوا حتى بحقهم في الحلول محل الحكومة في ادارة شؤون الدولة و تعيين الوزراء و عزلهم. كل هته التصرفات غير السليمة ألبت الراي العام ضد اتحاد الشغل و حولت الحرب بين الإتحاد و النهضة إلى حرب بين الإتحاد و المواطن. لكن من يعتقد اليوم أن الإنتصار للحكومة ضد إتحاد الشغل هو إنتصار للمصلحة الوطنية فهو واهم لأن الحكومة ليست سوى أحزاب لا علاقة لها بالمصلحة العامة و هي تمارس حربا بالوكالة نيابة عن هته الأحزاب و بالأخص حركة النهضة التي بمجرد أن ينتهي من القضاء على الأخ غير الشقيق سينقض بدورها على بقية أشقائها لتغنم بالغنيمة لوحدها.