بالأمس ركبت إلى جانب ابني في سيّارتي ، وهو السّائق المغرم بالسياقة في هذا "الزمن المروري الكلب" ، في جولة ما قبل الإفطار قتلا للوقت ( وتلك ميزة التوانسة وكل الشعوب المتخلّفة ) وطلبا للمصروف الزائد وشهوات عين الصائم التي لا تنتهي ، فبادر بوضع قرص أغان شبابية كانت أولاها للشهير أحمد عدوية وتقول : إيه يا راجل إنت ده .. إيه اللّي إنت عامله ده …عيب عليك في السن .. ده يطلع منك كل ده… لست أدري لماذا نسيت صخب موسيقى "السندويتش والڤزڤز" وابني المنتشي حتّى الثمالة بهذه الرائعة الموسيقية حسب ذوقه ، وتبادر إلى ذهني على الفور اسم السيد حامد القروي ، وكيف أطلّ علينا منذ مدّة قصيرة برأسه من تحت الرماد بعد طول غياب خِلْناهُ أثناءها أنّه اقتنع "بأنّ الرجوع لربّي وبأنّ كل واحد ياخو وقتو ولا يمكن أن ياخو وقت غيرو" ، وأنّ دودة السياسة مهما كبرت وعظمت واستبدّت بصاحبها فلها أجل حتمي للأفول والتّواري إذعانا لسلطة الزمن ومنطق تعاقب الأجيال . فالرجل قضّى أكثر من ثلاثة أرباع عمره مناضلا ، سياسيا ، طبيبا ، رياضيا ، له أياد بيضاء على الحركة الدستورية الأصيلة ومعركة الاستقلال وبناء الدولة الحديثة وتأطير الشباب والرياضيين ثم كرجل دولة خدم بتفان وإخلاص المصلحة العامة والنظام القائم ، وانسحب تقريبا من الحياة السياسية قبل خمس سنوات من نهاية نظام بن علي الذي شغل فيه على مدى إحدى عشرة سنة منصب الشخصية الثانية في الدولة وهو الوزير الأول والنائب الأول لرئيس التجمع الدستوري الديمقراطي . فأيّة ذبابة يا ترى لسعت أنف سي حامد حتى يعلن عودته للحقل السياسي و"التبسيس" لها قبل ذلك بهجمات الصواريخ العابرة للقارّات على حركة نداء تونس وزعيمها الباجي القائد السبسي ، ثم الإعلان عن مبادرة ما أسماها بتجميع الدستوريين والتجمعيين قبل الخطوة الأخيرة المرتقبة وهي تأسيس حزب سياسي في الغرض يعلم مسبقا أنّه سيكون هو وأغلب رموزه من المقصيين الأوائل بسيف مشروع قانون تحصين الثورة الذي ترفعه حركة النهضة وربيباتها من الأحزاب الكرتونية في وجه خصومها السياسيين ؟ فإذا كان السبسي والعمل التاريخي الكبير الذي قام به لفائدة تونس بعد الثورة وسهره على تنظيم أول انتخابات حرة نزيهة في تاريخ البلاد باعتراف الترويكا نفسها التي وصلت بفضله إلى الحكم ، يُعاب ويُحاكم اليوم على سنة قضّاها كرئيس لمجلس النوّاب في بداية حكم الرئيس المخلوع كان وقتها إقصائيّو اليوم يردّدون "ربّي الفوق وبن علي لوطة" ، بل ويُصاغ قانون الإقصاء الذي يستعدّون لتمريره على مقاسه شخصيا لمنعه لا فقط من الترشح لأي منصب سيادي في الدولة بل وأيضا ممارسة العمل السياسي والانتساب لأي حزب كان ، فكيف سيكون الأمر مع من كان الشخصية الثانية في نظام المخلوع لأكثر من ثلاثة أرباع فترة حكمه ، ذاك الذي وقف بأمّ عينيه على الشرّ المستشري في أجهزة الدولة ولم يستطع الوقوف مع الحق ونصرته بل ربّما صفّق للباطل ؟ أسأل سي حامد أليس في عهدك السّعيد بدأ مسلسل التفويت في المنشآت العمومية الرابحة منها والخاسرة وخصّصتَ للمسألة منصبا حكوميا تابعا للوزارة الأولى ؟ ألم يبدأ في عهدك السّعيد القطط السّمان "تتعشعش" وتعيش وتربّي الريش عبر عقود الشراء الصوري للمنشآت المُفوّت فيها ؟ ألم تبدأ في عهدك السّعيد كل مظاهر استشراء الفساد والرشوة والمحسوبية وخدمة العائلة المالكة في مختلف أجهزة وإدارات الدولة ؟ هل تعتقد سي حامد أن الشعب التونسي على هذه الدرجة من الغباء وفقدان الذاكرة حتّى يصدّق أنك عُدْت لتجميع العائلة الدستورية والتجمعية وهي التي تضمّ أكثر من حزب وحركة تحت عنوان خدمة الصالح العام هكذا لوجه الله دون أجندات معلومة وأهداف مرسومة ؟ لم لا تقول سي حامد أنّك من المؤمنين حدّ العقيدة بأن الحركة الدستورية "ساحلية" بالأساس ولا يجوز أن يتزعّمها غير الساحلي ؟ لم لا تقول سي حامد أنّك من المؤمنين حد العقيدة كذلك بأن السياسة واحترافها وممارستها شأن جهوي بل هو في ذهنك يجب أن يكون "حْبس" على الساحل والسواحلية ، ولا نجاح لأي مسار سياسي لا يكون فيه لهؤلاء الدور الأبرز والأكبر ؟ أيّ علاقة سي حامد لعودتك المظفّرة على الساحة مع صعود وأفول نجم حمادي الجبالي أمين عام حركة النهضة ، والمراهنة على أنّه بوّابة "السواحلية" في السيطرة على الفعل والحراك السياسي في الحزب المهيمن الجديد ، الذي يتّجه بطبيعة مسقط رأس كبار المسؤولين فيه نحو جعل الجنوب وخاصة الجنوب الشرقي مركز الثقل السياسي الجديد في الخارطة السياسية لتونس بعد الثورة سواء على مستوى الحزب أو حتى على صعيد كبرى مسؤوليات الدولة ؟ ويبقى السؤال الأبرز بعد هذا سي حامد ذلك الذي يخامر ذهن كلّ درويش من أمثالي : أليست مبادراتك وخطاباتك واستجواباتك وصولا إلى حزبك المنتظر هديّة سماوية لحركة تآكلت وأكدت كل استطلاعات الرأي أفول نجمها وأنّها لن تكون في الانتخابات القادمة بحجم ما كانت عليه في انتخابات التأسيسي ؟ أليس ما تقدّمه سي حامد من مادّة سياسية جديدة لا معنى لها غير محاولة "تفشيخ عظام" عدو النهضة اللّدود حركة نداء تونس وشقّ صفوفها ؟ أمّا السؤال الأخير سي حامد ألا يكون فعلك هذا من باب قاعدة "ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان" التي تحدّث عنها شيخ النهضة ذات يوم ؟ أليست العملية كلّها تختزل في جملة واحدة : القروي الصغير في نجدة القروي الكبير ، وعملية تبادل أدوار بين الأب والابن ، في زمن صغُر فيه الأب وكبُر فيه الابن …