يُحكى أنّ أعرابيّا كان لا يؤدّي فريضة الصلاة ، فأقنعه بعض أصدقائه بضرورة أنْ يُقلع عن هذه العادة السيئة ويقوم بفرائضه . وفي أوّل مناسبة عزم فيها على الأمر توجّه الأعرابي إلى أحد المساجد ودخل الميضة للقيام بواجب الوضوء فوجد الماء منقطعا ، فهلّل فرحا وسعادة قائلا : "جاتْ منّك يا ميضة" ، تعبيرا صادقا منه عن عدم اقتناعه بأداء الصّلاة ، وحجّة أمام أصدقائه بأنّه ليس هو المُقصّر عن القيام بالفريضة بل القَدَر الذي منعه من ذلك التونسيون يعيشون هذه الأيام على وقع حكاية الأعرابي هذا وعبارته الشهيرة ، فحركة النهضة التي لا تأخذ من الديمقراطية غير "المْرَقْ" وقشورها المسمّاة الانتخابات ، تأبى عليها نفسها قبولَ لُبّها وأُسُسها ودعائمها البديهيّة كاحترام القانون والقبول بالتداول على السلطة وحياد الإدارة والحوار والاستقالة وكلّ القيم المدنيّة والجمهورية ، دخلت ما يسمّى بالحوار الوطني مُكرهة ومُرغمة بعد تتالي المصائب والكوارث والنكبات الأمنية والسياسية والاقتصادية منذ أمسكت بتلابيب السلطة التي منحتها لها أول انتخابات نزيهة وشفّافة في تاريخ تونس ، والتي كانت محدّدة في الزمن والأهداف . لكنّ القشّة التي قصمت ظهر البعير كانت حادثة الاغتيال السياسي الثالثة التي تُسجّل في "عهدها السّعيد" وذهب ضحيّتها الشهيد محمد البراهمي وما تلاها من مظاهر خروج المارد الإرهابي الأعمى من قمقمه بعد ما مهّدت له سياستُها الأمنية المتواطئة كلّ مقوّمات "العيش وتربية الرّيش" . عند هذه اللّحظة ، ومع حالة الغليان والفوران الشعبي والنخبوي لم تجد حركة الشيخ من بدّ سوى الدخول في طور المعالجة بالمسكّنات والمهدّئات بانتظار تغيّر الأحوال والظروف والعودة من جديد للسّاحة بمنطقها التاريخي المعروف والذي هو قاعدة وليس استثناءً وهو "التبوريب" ونفخ الصدور والتغنّي ب"ملْزومة" الشرعية المنتهية وهكذا كان الحوار الوطني وخارطة الطريق المنبثقة عنه اللّذان هرّيا أعصاب الرباعي الراعي وكل "الأيّوبيين" من التونسيين والتونسيات ، خيرَ طوْق للنجاة لحركة "المرشد الأعلى" وجماعته ، إذْ بعد الادّعاء بأن الحركة ليس لها مرشّح بعينه لمنصب رئيس الحكومة القادمة وأنّها تعمل على التوافق مع بقية مكوّنات الحوار على شخصية وطنية تتوفّر لديها الشروط اللاّزمة لإنجاح ما بقي من عُمُر المسار الانتقالي ، انتفضت من جديد وتمسّكت بمرشّح واحد أوعزه على مسامعها من كان مهوسا على الدّوام بفكرة "خُلقتُ لأكون رئيسا" في حركة بهلوانية جديدة في تاريخ شطحاته وانقلاباته السياسية التي لا ولن تنتهي ، لتحكم بذلك على هذا الحوار ب"الاستحّمار" كما تنبّا له أحد المنظّمين في زلّة لسانه الشهيرة ، وكما عبّر عنه أغلب التونسيين في استطلاعات الرأي التي سبقت الانطلاق ومثلما كان مخطّطا دفعت النهضة بقوى المعارضة لمقاطعة الحوار من جديد ، والعودة للأجواء المشحونة المُنذرة بالانفجار إلى نقطة الصفر ، وأطلقت أيادي أتباعها وزوائدها الدودية في المجلس التأسيسي بالعبث بالقوانين المنظّمة لعمله ، وحشدت أقزام الأحزاب والتكتلات التي تدور في فلكها في "خلْطة" جديدة في شكل ثاني أكبر كتلة بعد كتلتها ، وأعطت الضوء الأخضر بعد انقضاء أجل زواج المتعة الذي عقدته مع "أنصار شريعة أبو عياض" لذلك الحزب الذي يجعل من التحرير شعارا له – ولستُ أدري ممّا سيُحرّرنا – والخِرق السوداء والبيضاء علما له عوضا عن علم هلالنا الوضّاح ونجمتنا البرّاقة لكي "يشكّب" على الجميع ويندّد بدستور العلمانيين الكفرة ، ويدعو إلى دستور الشريعة على فهمه لها ، وإقامة دولة الخلافة الأسطورية في إشارة ورسالة واضحتيْن لكل التونسيين تقول : لستُ أنا من علّق الحوار أو من أفشله ، ولستُ مسؤولا عن ردود أفعال "عائلة الشرعية" الموسّعة ، لكن مع ذلك "جاتْ منّك يا ميضة" على قول الأعرابي … تنويه : الآراء الواردة في ركن الراي الآخر لا تلزم إلا أصحابها