من الجيل الأول الذي انتمى مبكرا لحركة النهضة حين كانت تسمى " الاتجاه الاسلامي "، وعايش كل مراحلها من قبل التأسيس إلى بداية إعلان بيان 6 جوان 1981، مرورا بكل محطات الصعود والنزول، إلى حدود الثورة. كما رافق تفاصيل محنة الحركة بالمهجر ما يقارب الثلاث عقود.. ذاك هو بإيجاز السيد " مصطفى عبدالله ونيسي "، الذي بعد هذه المسيرة الطويلة نراه أخيرا يقدم استقالته من " حركة النهضة التونسية ". للوقوف على بعض الأسباب وخفايا هذا القرار، أجرينا معه هذا الحوار، دون أن نكون معنيين ولا منخرطين في المطابخ الداخلية للأحزاب، سوى إنارة القارء وإفادة المواطن وإدارة الحوار، معتمدين في ذلك المهنية والموضوعية والحياد، ومنحازين فقط للإعلام المستقل والجاد، بعيدا عن صحافة الربو والزكام. بعد حوالي ثلاث عقود من الانتماء لحركة النهضة تعلن استقالتك، فما هي الدوافع الحقيقية لهذا القرار ولماذا الآن؟ بسم الله الرّحمن الرّحيم الاستقالة هي موقف واع ومسؤول ومُفكّر فيه ، ولكنّها تبقى دائما عمليّة شديدة الوقع على النّفس البشريّة، وخاصة إذا ما كانت الاستقالة من حركة إسلامية في حجم حركة النّهضة. أمّا عن الدّوافع لهذه الاستقالة فهي كثيرة، وما زادتها الأيّام إلاّ تراكما. ومن أهمّ هذه العوامل على سبيل الذّكر لا الحصر اليأس من إحداث الاصلاحات الهيكليّة المطلوبة، وعدم الجدّية في الفصل بين المجالين الدّعوي والسّياسي، والإصرار على ترحيل عمليّة التقييم وإعادة ترتيب البيت النهضوي من الدّاخل بما يستجيب لمطالب الثورة في الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة إلى أجل غير مسمّى، والهرولة إلى السّلطة في أوّل فرصة توفرت دون ضوابط موضوعية وأخلاقية ودون تحديد رزنامة ( أجندة) سياسية معلومة الآجال، وكذلك تمييع مسار العدالة الانتقالية والتلويح تلميحا وتصريحا بضرورة وشرعيّة التطبيع مع أعمدة الاستبداد السابق، ممثلة في رموز الثّورة المضادّة القدامى منهم والجدد… أمّا عن اختيار التوقيت، فلأنّ الأمر لم يعد يحتمل التأخير أكثر. ذكرت في استقالتك عبارة أن " حركة النهضة " لم تعد تسعك، وأن أدائها أثناء الحكم لم يكن في مستوى انتظارات وأهداف الثورة، فهل من توضيح حول خلفية هذا التصريح، الذي يستبطن ضيقا بالرأي المخالف والناقد، وأن فضاء الحريات داخل هذا الهيكل السياسي منكمشا وغير رحب، وأن النهضة لم تكن وفيّة لقيم ومبادئ الثورة، كما يستشفّ من عباراتك، في حين أن البعض يؤكد أن أطر الحركة فيها أقدارا كبيرة من مساحات حرية إبداء الرأي والنقد والتقييم؟ حركة النّهضة حركة جماهيرية لها جذورها الممتدة في كلّ الأوساط الشّعبيّة. وهذا البعد الجماهيري يعني فيما يعني وبشكل طبيعي تعدد التّيارات، وهذا التعدد يقتضي ويفرض علينا الحرص على تمثيليّة كلّ هذه التّيارات عبر آلية ديمقراطية تضمن لكلّ تيار حقّه في ممارسة القيادة ضمن عقد تنظيمي وسياسي داخلي يحقق الانسجام الحزبي للقيادة رغم التعدد ويستثمر الثّراء الفكري والسياسي لمختلف هذه التيارات في الإفادة والتنوع، دون أن يؤثر ذلك سلبا على فاعليّة الحزب وديناميكيته في ساحة النّضال السّياسي والاجتماعي كما هو الحال تقريبا بالنسبة للحزب الاشتراكي في فرنسا. وهذا التعاقد القيمي بين مختلف الحساسيات الفكرية داخل الحركة طال انتظاره ولم يحصل، فبقيت الحركة تُقاد بمجموعة واحدة لا شريك لها في القيادة في حالة المواجهة وفي حالة السّلم ولو كان نسبيّا ، كذلك الشأن بالنسبة للمجالين الدّعوي و السياسي، و في كلّ المجالات دون مراعاة للمهارات المطلوبة والاختصاصات المتنوعة كما أنّ هذه المجموعة أممّت كلّ الفضاءات السّياسيّة والتنظيميّة والإعلامية بشروطها ، وهمّشت كلّ الطاقات والكفاءات الأخرى ومن خالفها الرّأي ، وأسقطته من حسابها سواء قبل الثّورة أو بعدها. فالمقياس في توليّة المهام والوظائف سواء منها الحزبية أو الحكوميّة لم يكن الكفاءة والنزاهة، وإنّما كان المحدّد الأهم هو الولاء الحزبي والمحاباة، والعلاقات ذات الأبعاد المصلحية وحتّى الروابط الأسريّة، وهو سلوك خلنا أنّه قد ولّى واندثر، فنحن في سياق ثوري لا يقبل بأنصاف الحلول. هذا التّمشي انعكس سلبا على أداء المجلس الوطني التأسيسي، الذي كان بطيئا ومُكلفا ومُرهقا وصادما ، وكذلك انعكس ضعفا على أداء الفريق الحكومي وفي كلّ المجالات وخاصة منها التنموي والأمني والعدالة الانتقاليّة.. لهذه الأسباب مجتمعة وغيرها ، شعرت أنني مع احترامي الكامل لكلّ المناضلين أنِّي قد أصبحت غريبا داخل هذه الحركة ، ولذلك فهي لم تعد تسعني سياسيا. استقالتك هذه المرة كانت معلنة وعلنية، وعمليا وحسب بعض مصادرنا فقد كنت في السنوات الأخيرة مستقيلا تنظيميا، احتجاجا كما تقول أو كما يقال في الكواليس، عن عدم رضاك على المنهج الذي اتبعته حركة النهضة في المهجر. إذ لم تفلح حسب قناعاتك ومن معك في فضّ الاشتباك بينها وبين النظام البائد؟ لا، لم أكن تنظيميّا مستقيلا ، ولكن كنت في وضع المستقيل غصبا عنّي لأن الفريق القيادي لم يقبل بنا كشركاء له إلاّ بشروطه، وكثيرا ما سمعنا وللأسف، كلاما جارحا من قبيل ( من لم يقبل بنا بشروطنا فليتخذ لنفسه سقفا آخر)، وهي كلمات جارحة لما تستبطنه من ظلم وإقصاء للمخالفين، لا لتجاوز ارتكبوه وإنّما لمجرد اختلاف في الرّأي. و أنا بالمناسبة أحمّل القيادة التي كانت بالمهجر مسؤولية حرمان كثير من الكفاءات النزيهة والمخلصة من خدمة بلادهم، التي طالما ناضلوا من أجلها، وتمنوا أن يساهموا في بناء بلدهم ،ولكن من خلال مشروع حركتهم. و رغم هذه الغبن المسّلط علينا، تعالينا فوق جراحنا وكنّا إيجابيين، وكان لنا حضورا إعلاميّا من خلال ما كتبته من مقالات كثيرة دفاعا عن الحركة وحكومة الترويكا. كما أنّي لم آل جهدا نُصحا للحركة ، ولي من الوثائق والرسائل ما يثبت ذلك. أنت أحد المحسوبين على التيار المعارض أو الناقد لخط الحركة في المهجر كما تسمّون أنفسكم، وكنت ضمن ما يسمى بمجموعة 12، حيث كنتم من دعاة فتح قنوات حوار مع النظام المخلوع، من أجل البحث على نوافذ لتخليص المساجين والمهجّرين من محنتهم وطي صفحة الماضي حسب طرحكم، فوقع استبعادكم كما تقولون من طرف الرافضين لهذا النهج، في حين أن الوقائع أثبتت أن اجتهادكم ذاك كان مجانبا للصواب، وقراءتكم السياسية كانت متسللة عن الواقع؟ لا لم نكن تيّارا معارضا أو ناقدا لخطّ الحركة في المهجر، ولكن في نفس الوقت لم نكن راضين لا عن قرارات ولا عن أداء قيادة الحركة. والفرق كبير بين خطّ الحركة في المهجر، وقيادة الحركة ذات اللّون الواحد في المهجر. فنحن لم نكن تيّارا مقنّنا ومعترفا به، وإنّما كنا مجموعة مهمّة من المناضلين الشرفاء الّذين يهمهم مصير بلادهم ومستقبل حركتهم. وسلوك كهذا في الأصل لا يستحق أصحابه العقاب والإقصاء وإنّما يستحقون التشجيع والرّعاية. صحيح طالبنا بالبحث عن سبل سياسية لفتح حوار مع النّظام من أجل رفع المظلمة عن المساجين، ووضع حدّ لمراقبة المعارضين والتضييق عليهم، وغير ذلك من المطالب الحقوقيّة كمدخل منهجي لولوج المطالب السّياسيّة في مرحلة متقدمة ونحن في وضع نفسي اجتماعي أفضل وأقوى. وما ينبغي علينا أن نذكره هو أن نضع كلّ ذلك في سياقه السياسي والتّاريخي، إذ أنّ موازين القوى في ذلك الوقت كانت منخرمة بالكامل لصالح النّظام، إضافة لحالة الجمود والعجز عن تحرير ولو سجين واحد من طرف قيادة حركة النّهضة في المهجر.. ما يشغلنا كأولويّة كان هو التخفيف على المساجين وعائلاتهم. كما أنّنا على المستوى المبدئي كنّا لا نؤمن إلاّ بالسّلميّة سبيلا ومنهجا لحسم خلافاتنا واسترجاع حقوقنا، وبناء عليه كنّا مصرّين على الحلّ السّياسي رغم تعنت النّظام لأننا كنّا نعلم أنّ هذا الأخير لن يكون هو اللّاعب الوحيد في السّاحة الوطنيّة على المدى المتوسط والبعيد، فهناك حراك المجتمع المدني، وهناك ضغط المنظمات الحقوقية، إلى جانب القوى العظمى التي تعتبر أنّ التلاعب بمصالحها خطّا أحمر. كنّا نعرف أنّه بشيء من المقاومة السّلمية والإصرار عليها لن تكون معركتنا مع النّظام محسومة لصالحه. كان هذا خطابنا في السّر والعلن. وهذا ما صدّقته الأيّام، وأما الثّورة، ولئن لم يكن أحد يتوقع أنّها ستنفجر بهذه السّرعة وبهذه الرّاديكاليّة ، إلاّ أنّها في الحقيقة كان انفجارها تصديقا لتحليلنا ورهاناتنا التّي وضعناها نصب أعيننا. أمّا القيادة فقد كان خطابها المعلن ثوريّا، لا عقلانيّة تحكمه ، وسياسيا كان خطابا غير مسؤول، أمّا سلوكها في الكواليس فقد كان يتسم بالهرولة المهينة نحو النّظام، وكان الاستعداد لكلّ التنازلات متوفرا، وكانوا لا ينتظرون إلاّ إشارة من المخلوع حتّى يلبّوا دعوته، المهم القبول بهم ولو عن حلول منقوصة ومتدرجة والدّلائل عمّا نقول لا تنقصنا. وهذا ما نسميه ازدواجية في الخطاب والسّلوك وهو ما أوتينا منه في كلّ مرّة . فاجتهادنا ، إذن، لم يكن مجانبا للصوّاب ، و إنّما كان مبنيا على قراءة عقلانيّة وتحليل موضوعي لواقع النّظام الحاكم وواقع القوى العظمى وتأثيرها على واقعنا الوطني والإقليمي. أمّا الثورة التّي رفعت رؤوسنا عاليا وحررتنا من كلّ تلك الحسابات المرهقة والمكلفة لزحزحة النّظام لو قيد أنملة عن مواقفه الاستبداديّة الغاشمة لم يكن أحد يتوقعها ، والعبرة بالمآلات كما يقول الأصوليون ، فمن من الفريقين في الوقت الرّاهن لا يزال وفيّا للثورة، ومن الّذي التف عليها وهرب بها بعيدا عن انتظارات شعبنا في الحرية والكرامة؟ انتهجت " حركة النهضة " وهي في سدّة الحكم مسلك الحوار مع كل الفرقاء السياسيين ومختلف الفاعلين في المجتمع المدني، من أجل مصلحة الوطن كما يصرّح ويؤكد قادتها، في حين دعاة الحوار بالأمس وأنت أحدهم يعارضون هذا المسلك ويعتبرونه تنازلات مجانية وضعفا سياسيا، أليس هذا نوعا من السبي السياسي للمواقف؟ الحوار الوطني الأخير الّذي انبثقت عنه خارطة للطريق، سبقته مبادرات لحوارات وطنيّة كثيرة، فلماذا فشلت تلك الحوارات ونجح الحوار الوطني هذه المرّة بقيادة الرّباعي الرّاعي للحوار؟ أعتقد أنّ ذلك لم يكن صدفة وإنّما هو أمر قد دُبّر بليل. ففشل مؤتمرات الحوار الوطني سابقا سببه الأساسي أن حركة النّهضة لم تكن جادّة في تعاطيها مع هذه المؤتمرات الحواريّة، ولكن عندما شاهدت المصير الذي صار إليه الإخوان في مصر، وتدخلت أطرافا أجنبية للضّغط على الحركة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أحدث ذلك صدمة في أوساط القيادات النّهضوية وخاصة رئيسها، خوفا من حدوث الكارثة. وطلب هذا الأخير من منظوريه في الحكومة والحزب والمجلس التأسيسي الإسراع بالخروج من البيت حتّى لا يسقط السقف عليهم. فمساهمة الحركة في الحوار الوطني الأخير، الذي انبثقت عنه خارطة الطّريق المهينة ، التّي بمقتضاها انسحبت حكومة (الترويكا) من السّلطة لم يكن عن قناعة وإرادة مستقلة ، كما يُريد الإعلام المخاتل وأنصار النهضة أن يسوّقوا لنا ذلك ، وإنما كان عن ضغط وإكراه وارتكاب لأخف الضّررين. فسيناريو الحوار الوطني هو بالنسبة إلينا انقلاب أبيض، مدعوما بأطراف خارجية وداخلية لا يهمها كثيرا الشّرعية السياسية ، التي أفرزتها انتخابات 23 أكتوبر 2011 ، بقدر ما يهمها مصالحها المتناقضة في أغلب الأحيان مع مصالح شعبنا المسكين. فالحوار الوطني بالمقاييس الوطنيّة لم يكن وطنيا بالمرّة، وقيادة حركة النّهضة تُدْرك ذلك، حتّى وإن حاولت تصوير الفشل الذّريع نصرا، وأنّ رئيس حركتهم بطلُ سِلْمٍ ، وأنّ السّذاجة السّياسية حكمة وذكاء. فنجاح الحوار الوطني لم يكن تنازلا من طرف حركة النّهضة لصالح الوطن، وإنما كان إنقاذا لحركة النهضة ولرئيسها بالذّات من مصير شبيه بمصير الإخوان في مصر، وهو ما لا تحتمله قيادات حركة النهضة، خاصة بعد أن أصبح حزبها حزب سلطة وصفقات سلطوية ، فولّى ظهره لمطالب الثّوَار و انتظارات الكادحين والمقهورين من أبناء شعبنا. وإمعانا في الهروب إلى الأمام ، واتقاء للمساءلة والمحاسبة ، ابتكر لنا العقل المدّبر لقيادة حركة النّهضة حيلة ( الاستفتاء)، لترحيل عمليّة التقييم والمراجعة إلى أجل غير مسمّى، وهو ما ذكرني بحيلة شهيرة في تاريخ حروبنا الإسلاميّة كان مبتكرها " عمرو بن العاص " في معركة صفين، عندما انتصر جيش علي على جيش معاوية ، فسارع عمرو بالإشارة إلى معاوية بأن يأمر الجيش برفع المصاحف على أسنة السيوف والرّماح ، وطلب الهدنة والإسراع إلى التحكيم بين الفريقين. و كأنّ التاريخ يعيد نفسه ولكن في الاتجاه السيء . أمّا استغرابك ممّا أسميتهم بدعاة الحوار بالأمس كيف ينقلبون اليوم إلى رافضين لهذا المسلك الحواري، فأقول أننا نحن دعاة حوار وإصلاح سابقا وحاضرا ومستقبلا، ولكن ما لا نقبل به هو الحوار المغشوش والقائم على الإكراه والغصب والتّدخل الخارجي في شؤوننا الدّاخلية. هل تتوقع استقالات أخرى في قادم الأيام من حركة النهضة، وهل تنوي الانضمام إلى" حزب البناء الوطني"، هذا الاطار الوليد " الغامض " النشأة والتأسيس، والذي ما يزال يتلمس الطريق، ويبحث عن أرض يقف عليها، والذي يشرف عليه السيد " رياض الشعيبي " المستقيل حديثا هو أيضا من الحركة؟ أتوقع ذلك، فالإسلاميون أو أنصار الإسلام السّياسي، استطاعوا أن يوظفوا ما تعرضوا إليه من أذى و محن وظلم و أحكام جائرة في حقهم من طرف أنظمة الحكم الاستبداديّة المتعاقبة على أوسع نطاق ولكن كيفية تعامل هؤلاء مع السّلطة في أوّل فرصة أُتيحت لهم بددت كلّ رصيدهم النضالي، وكشفت الكثير من نقائصهم، فأصبحوا مثلهم مثل غيرهم في عيون جزء كبير من المواطنين، وهذا ما نزع عنهم تلك النّظرة المثاليّة الّتي كانوا يحظون بها لدى مُواطنيهم. فالنهضويون في تقديري الخاص، خسروا أكثر ممّا ربحوا من تجربة الحكم. وهذا ما سيكون له انعكاس سلبي على مناضلي ومناضلات الحزب. أمّا عن إمكانية انضمامي لحزب البناء الوطني، فقد استمعت بكلّ انتباه لمداخلتين للسيد " رياض الشعيبي " مؤسس الحزب في منبرين مختلفي ، فوجدته مقنعا خاصّة لشخص مثلي، عايش تلك الإشكاليات من الدّاخل، ولكن مسألة الانضمام الفعلي لهذا الحزب أو غيره، فإنّ الأمر لا يزال يحتاج إلى تريث وتفكير، فأنا بحاجة ماسّة لمسافة من الوقت أرتب فيها أولوياتي من جديد، وأريح فيها أعصابي. ما هو الحصاد الذي خرجت به من هذه التجربة، والرصيد السياسي الذي جنيته طيلة هذه السنوات من الفعل والتواجد في الحقل الحزبي الإسلامي؟ الخلاصة التّي خرجت بها من هذه التجربة ومن إقامتي الطّويلة في فرنسا أنّ على الاسلاميين أن يعيدوا النّظر في برامجهم وأولوياتهم السّياسية والاجتماعيّة، وأن ينطلقوا في عملهم السّياسي من أرضية وطنية متصالحة مع هويتها العربية والإسلامية باعتبارها مرجعية الأغلبية في أوطاننا العربية والإسلاميّة، وأن يتجنبوا إكراهات الإيديولوجيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. كما أنّ على الإسلاميين أن يقوموا بنقدهم الذّاتي بكلّ موضوعية دون أن يسقطوا كما هو حال بعضهم في عمليات جلد للذّات مستمرة ومثيرة لليأس والإحباط ، كما أنّه على الشّق الآخر منهم أيضا التواضع للحقّ والأخذ عن الآخرين أفضل ما عندهم دون حرج ما لم يكن حراما ، فالحكمة ضالة المسلم أنّى وجدها فهو أحقّ النّاس بها. هذا على المستوى الجماعي. أمّا على مستوى الأفراد ، فلا ينبغي أن نُستدرج ويُنسينا حماسنا لخدمة الشأن العام واجباتنا الفردية نحو الله سبحانه وأسرنا وأصدقاءنا، ولا ننسى أبدا أننا ذاهبون ولهذه الدّنيا مغادرون ولربّنا منقلبون. لا ننسى أننا ميّتون وأن أعمالنا لمنقطعة لا محالة إلاّ من ثلاث كما قال نبينا صلّى الله عليه و سلّم : علم يُنتفع به ، وصدقة جارية وولد صالح يدعو له ، فهذه لعمري جماع الخير والعمل الصّالح المُصلح. يقول الله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صالِحا فلنفسهِ ، وَمَنْ أَساء فَعَلَيْهَا ، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) سورة الجاثية/ الآية 15. فنبيّنا صلّى عليه و سلّم بصريح عبارته يقول ( إنّما بُعث لأتمّم مكارم الأخلاق) وهو بلا منازع قدوتنا الأسمى و أسوتنا الحسنة و مثلنا الأعلى. عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : ( لا تحقرنّ من المعروف شيئا ، و لو أن تلقى أخاك بوجه طَلِيقٍ) رواه مسلم ، و قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الّذي أورده عَدِيٍّ بن حاتم رضي الله عنه ( اتَّقُوا النّار ولَوْ بشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَن لمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ) حديث متفق عليه. و( الكلمّة الطّيِّبَة ُ صَدَقَة ٌ) كما جاء في الحديث الّذي أورده أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هذه بعض الخلاصات التي خرجت بها من هذه التجربة التّي غطّت أهمّ جزء من حياتي سائلا الله أن يعفو عنّي و يغفر زلاّتي الكثيرة و يختم لي بالصّالحات ويجعل آخر عمري خيرا من أوّله و يسترني وإيّاكم في الدّنيا و الآخرة ، إنّه نعم المولى ونعم النّصير