كمال الكشو باحث وفنان تشكيلي متحصّل على دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون اختصاص فنون تشكيلية. شارك في عديد المعارض وتحصّل على الجائزة الأولى لصالون الخزف والنحت وعلى الجائزة الأولى للمعرض السنوي للفنون التشكيلية بصفاقس. صدرت له عديد المنشورات أهمّها كتابه "مقاربات الخزف الفني: جذورها الغربية و إشكالياتها العربية". يفتتح المعرض يوم الخميس 11 ديسمبر 2014 في الساعة الرابعة برواق المعهد العالي للفنون بصفاقس ويتواصل إلى غاية يوم السبت 20 ديسمبر 2014. يأتي هذا المعرض في سياق مقاربة فنية ينفتح فيها الخزف على المحيط حيث إعتمدتُ بالأساس على تطعيم مواد العمل الخزفي بمواد دخيلة عليها. وحدّدت هذه الخامات الدخيلة في بقايا ونفايات المعادن من حديد ونحاس وألومينيوم وغيرها واعتبرت هذه التجربة محاولة للقطع مع فكرة المادة الواحدة والتقنية الواحدة، لتحلّ محلّها، مواد وتقنيات مختلفة وربّما غير متجانسة في نفس العمل الخزفي ولتصير عناصره وآليات إنشائه غايات في ذاتها وقوى ديناميكيّة تؤسّس فضاءه وتنظّمه. واعتبرت هذه المقاربة مدارا يمكن أن أسائل فيه بعمق مفاهيم المواد والتقنيات ودلالاتها في العملية الإبداعية. وحقلا لفعل إنشائي قد أتخطّى فيه حدود المتّفق عليه في أشكال الخزف وتقنياته. تكشّفتُ في خلط الطين ببقايا المعادن المصنّعة على عجينة غير متجانسة ربما فقدت الكثير من لزاجتها ولكنّها تحوّلت إلى مادة غنية أو إلى معدن جديد يكشف باستمرار أثناء تجفّفه وخاصة عند أفخاره وبعد طلائه على كيفيات ساهمت بدرجة كبيرة في تكون عناصر أعمالي الخزفية. تدفّقت من هذه الخامات ذات الطاقات الكامنة كيفيات كانت تثيرني وتستدعيني للفعل. لفعل خزفي، لا أستند فيه إلى طريقة عمل مألوفة، أو إلى أنموذج ظاهر أتتبّعه، وإنّما إلى طريقة أعالج فيها المواد ليفيض عنها أنموذج باطني كان دائما يغريني ويُورّطني، فكان أن عجنت وقبضت ونشرت وحفرت وثقبت وقطّعت ولصّقت وطليت إلى أن استعدت فعل التطعيم، فكانت "عودة الدخيل" من جديد. إنّ الألواح التي انتهيت إليها كانت تضعني دائما أمام نتائج تغري بالمواصلة. فبالرغم من "انتهاء" العمل في علاقته بتقنيات الخزف إلاّ أنّ عناصر بنائه تظل تستدعي للمضي في دروب المحاولة، والتورط في أسرار الخزف وسحره. لم أستطع في مقاربتي الخزفية أن أتجاوز القيمة التشكيلية والتعبيرية للعجينة الجديدة ولليد في العجينة، فقد فتحت طبيعة الخامات غير المتجانسة التي أتعامل معها إضافة إلى إدراكها بصريا، فرصا من نوع خاص لأتلمّس المواد ولأدرك كيفياتها وطبيعة التغيّرات الفيزيائيّة التي قد تنشأ عنها منذ خلطها. فهي تجربة أتجاوز فيها التعامل مع ظاهر الأشياء لأدرك وأعالج أعماقها. وهو ما فتح لي مساحات لأتأمّل العجينة بين يدّا وأعيد عجنها وقبضها لتكون أفعال الخلط والعجن غايات في ذاتها أتكشف من خلالها وأقبض على الصور الأخرى الكامنة لليد الفاعلة والتي اختزلتها في ما عبّرت عنه في جزء من عناوين المعرض " قبضة من طين". قبضة توصّلت خلالها في كثير من الأحيان إلى حدّ الشعور بشكل مفارق أننّي لا أمسك العجينة وأقبض عليها داخل كفّيا فقط، ولكنها في نفس الوقت تستوعبني بخاماتها وتغمرني لتضع بين أصابعي وفي قبضتي " تأمّلات رقيقة وعذبة كما عبّر عن ذلك "غاستون باشلار"…تأمّلات تفكّر، تأمّلات تريد، تأمّلات تمهّد الطريق للإرادة " . فبمجرّد أخْذ هذه الخامات، وهذه البقايا من المحيط اليومي في يديّ أشعر كأنّني أبتكر عالما آخر، ينبض على وقع حركات يد تقبض أحيانا وتتفتّح أحيانا أخرى، يد تتوالد من قبضتها صورها الكامنة والممكنة. أدركت في هذا المستوى من العمل معنى أن يذهب "هنري فوسيّون" إلى حدّ اعتبار أنّ اليد تفكّر وكذلك مقاصده من أنّ العلاقات بين الفكر واليد لا يمكن أن تكون بالسهولة التي بين الآمر والمطيع، فالفكر يحرّك وينمي اليد. واليد تنمّي الفكر. فالفعل الذي يبتكر يتعاطى حركة وسلوكا متواصلين على الحياة الداخليّة…فاليد تعلّم الإنسان امتلاك الأفق والوزن والكثافة والعدد…وتساعده ليمتدّ في الزمان وفي المكان". شعرت في هذه المقاربة كأنّني غيّرت من البداية، كلّ المعطيات التي يُفترض أن تمرّ بها عمليّة إنشاء العمل الخزفي. إذ اعتبرت نفسي في حلّ من الروابط والمكتسبات التقنيّة. وبالتالي لن يكون للفعل الحاذق والمهارة اللتين تتطلّبهما تقنيات الخزف من سلطة تُلزمني. فاليد والصور والتكوينات التي أقترحها هي توق منّي لأن لا يكون في أعمالي تكلّف وبرمجة مسبقة. أردت في هذه المرحلة أن ألامس العجينة المتغيّرة التركيب بيد من طبيعة يد "بيكاسو" التي لم تعرف الارتباك. وأعني بذلك، يد قادرة على مساءلة ما نتعلّمه وما نكتسبه من مهارة باستمرار. كذلك وفي مرحلة هامّة من هذه المقاربة ولّدت فيّ المواد المطعّمة الرغبة لتخطّي سطحها والولوج إلى عمقها، وهو ما أنتج الثُقَبَ، وفتح اللوح على الفراغ كقيمة حقيقيّة في تركيبته، وأضاف إلى حدود اللوح الماديّة لا محدوديّة الفضاء. استعدت من خلال "عودة الدخيل" فعل النفاذ في اللوح من جديد. فاجتياح فضاء اللوح هو الدعوة الحقيقيّة لإمكانية استمرارية الفعل في إنشاء العمل الخزفي وإمكانيات تجدّده. وهي محاولة فيها رغبة التحدي لسلطة النار كقدر تقني ينتهي عنده العمل. لذلك اعتبرتها محاولة لتطويع المادّة الخزفيّة رغم تحجّرها و شكلا لإمكانيّة تقاطع الأبدي بالعرضي في هذه الأعمال الخزفية. فأمام إمكانيّة تحرّر الفعل وتخطّيه للقدر التقني، أحسست كأنّني أُحدثُ أكثر من فاصلة في سياق العمل أو أكثر من نقطة توقّف أو "تأمّل" أستعيد بعدها الفعل من جديد. فقد شعرت في هذه المراحل من العمل، كأنّني لا أريد قُدُوم العمل بشكل نهائيّ. وهو ما أحسست فيه من خلال هذه "الحاجة" لمواصلة الفعل، بتحوّل زمن الفعل أو زمن إنشاء اللوح إلى زمن فسيح، وأعني بذلك إلى " زمن ممتدّ "، تتعدّد فيه صيغ التركيب لتُطِلَّ على الممكن.