كان الخطاب الذي توجه به الزعيم الحبيب بورقيبة إلى الشعب التونسي في بنزرت 13 جانفي 1952 و الذي دعى فيه إلى الكفاح المسلح ضد المستعمر قد دفع بالأزمة القائمة بين فرنساوتونس الى أوجها . وكان يوم 18 جانفي المجيد . ففي ذلك اليوم تمّ آعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة وعدد من الوطنين، وأدرك الشّعب التّونسي أنّه لا مناص من الإلتجاء الى المقاومة المسلّحة . وهكذا دخلت المعركة الوطنيّة مرحلتها الحاسمة . لم تكد السّاعة الواحدة من صبيحة يوم 18 جانفي 1952 تدقّ حتّى كانت قوّات البوليس والجند والمصفّحات تحاصر الأحياء المجاورة لحي " معقل الزّعيم " حيث يوجد بيت المجاهد الأكبر . وعند السّاعة الثّالثة كانت قوّات البوليس تقتحم المدخل الخارجي للبيت فتوقظ الجيران وتروّع النّساء والأطفال وتدخل البيت شاهرة أسلحتها فإذا بالحبيب بورقيبة يقول : " لقد كنت في آنتظاركم " ثمّ يرتدي ملابسه ويغادر المنزل قائلا لعقيلته " سوف لا يطول البعاد هذه المرّة " . هكذا إذا انتزع الزعيم من بيته صحبة السيّد المنجي سليم الى بلدة طبرقة ، وفي نفس الوقت تمّ نفي جمع آخر من الوطنيين الى أقصى الجنوب التونسي . وآستيقظ الشعب على هذا النّبأ فعمّ الإستياء كافة البلاد وشملتها الإضرابات والإضطرابات ، وطوّقت العاصمة بحصار شديد فآنتصبت قوّات الجيش والبوليس والجندرمة في كافة الطّرقات وأصبحت العاصمة كميدان من ميادين الحرب والقتال ووقع اصطدام في حي باب المنارة أسفر عن عدد من الجرحى وقتيل واحد وكذلك وقعت عدّة مظاهرات قابلتها القوّات الأستعمارية بالرّصاص فسقط تحت وابله عدد من الجرحى . وكانت الحالة داخل البلاد لا تقلّ تعكّرا عنها في العاصمة فأصبحت كلّ البلاد كالبركان المحتدم وأصبح الشّعب التّونسي كلّه يشكل واجهة ضدّ قوّات الإستعمار انها بداية اندلاع ثورة جامحة سرعان ما انتشرت وامتدت الى جميع الجهات وشملت جميع طبقات الأمّة فأصبحت ثورة قومية ثورة شعب كامل بقويّه وضعيفه ، بفقيره وغنيّه بفلاّحه وتاجره بعامله وطالبه اتّحدوا كلهم وزحفوا صفّا واحدا لتكسير الأغلال وتحطيم صرح الإستعمار ، مضاهرات صاخبة عمت المدن والقرى آحتجاجا على آعتقال الزعيم بورقيبة وقادة الحزب وتبعت ذلك اضطرابات في جميع الميادين فتعطلت دواليب الإدارة وتوقّفت الحركة الإقتصادية بالبلاد الشيء الذي أضرّ بمصالح الشركات والمؤسسات الإستعمارية . وفي الجانب الآخر كان الحزب الحر الدّستوري يعقد سرّيا في نفس يوم 18 جانفي 1952 مِؤتمرا فوق العادة وأصدر لائحته التاريخية التي ندّد فيها بشدة بالإجراءات التي آتّخذت ضدّ الحبيب بورقيبة ومدير الحزب المنجي سليم وعدد من أعضاء الحزب وتبرّأ من مسؤولية النتائج الوخيمة التي قد تنتج عن هذه الإجراءات، ويؤكّد عزم الشعب التونسي على السعي بكلّ ما أوتي من قوّة لتحقيق مبادئ وأهداف ميثاق هيئة الأمم المتّحدة في ميدان الديمقراطية والحقوق الفردية والجماعية . كما أصدر المؤتمر جملة من المطالب يؤكّد فيها ضرورة الغاء الحماية وتحقيق الإستقلال بإبرام معاهدة بين تونسوفرنسا على أساس المساواة . وهكذا أخذت المعركة صبغتها الحاسمة فأعلن التونسيون اصرارهم على انتزاع سيادتهم من أيدي الغاصبين وتطوّرت الأحداث وتصاعدت مع مرّ الأيّام رغم بطش المستعمر وقيام اليد الحمراء بالقتل والاغتيالات وتنكر فرنسا لوعودها بتواطؤ من حكومة مزالي وتشديد الخناق على الوطنيين وتنفيذ احكام الإعدام على المجاهدين ثمّ نقل المجاهد الأكبر من جزيرة جالطا الى جزيرة " قروا " الفرنسية يوم 20 ماي 1954 وظنّ المقيم العام " فوزار " أنّه بلغ بمعيّة محمّد صالح مزالي المراد ، لكن بورقيبة لم ينته أمره حيث أمر من جزيرة الإعتقال بإرجاع " وسام الإفتخار" الذي كان قلّده الباي إيّاه ،وذلك تشهيرا بتنازلات الباي المتكرّرة وتنديدا بتهاونه المستمر بمصلحة الشعب هذا الشعب الذي آل على نفسه التّمسّك بخيار النّضال كخيار استراتيجي من أجل تحقيق النّصر فكانت ارادة الشعب وعزمه اقوى من عسف الإستعمار وكان المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة من المنافي يغذّي جذوة الكفاح ويبعث بصوت تونس الدّاوي في قلب فرنسا وفي عواصم العالم وينطق بكلمة تونس الفاصلة تجاه أيّ محاولة تضليل تبتكرها سلط الحماية إلى أن جاء يوم 31 جويلية 1954 عندما تحوّل منداس فرانس بنفسه الى العاصمة التّونسية بعد أن تسلّم مقاليد الحكم عن " بليفن "على إثر كارثة " ديان بيان " بالهند الصّينية وأعلن رسميّا أمام الباي آستقلال تونس الدّاخلي وتشكلت حكومة تفاوض شعبيّة شارك فيها الحزب لضبط أسس التعاون بين الدّولتين على قدم المساواة . فكان النّصر المبين الذي عمل من أجله الحزب الحر الدستوري بقيادة المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة طيلة عشرين سنة ، ثمّ جاءت نعد ذلك عودة الزّعيم من منفاه بجزيرة " قروا " الفرنسية إلى أرض الوطن يوم غرّة جوان 1955 وهو ظافرا رافع الرّأس موفور الكرامة وكانت آنطلاقة الشّعب الكبرى في سبيل الحريّة والعزّة والكرامة والنّصر والإزدهار. هكذا بدأت ملحمة معركة 18 جانفي 1952 الحاسمة وهكذا انتهت بتقرير المصير والفوز بالنّصر المبين.