تصاعدت حدة التجاذبات السياسية والتنافر بين الكتل البرلمانية المشكلة لمجلس نواب الشعب، وباتت صراعات الكل ضد الكل مشهدا مألوفا لدى كل متابع للجلسات العامة التي تعبّر عن حجم الصراع الداخلي في السلطة التشريعية المنتخبة التي تفتت بفعل الاختلافات الجوهرية في المضامين والرؤى لدور المجلس والغرض من التواجد فيه. وكرّست آخر جلستين عامتين الخلاف الذي برز منذ أول جلسة حيث يعاني البرلمان من التفتت والتمزق بين كتل تعارض بعضها بعضا وتسعى لتسجيل نقاط سياسية في كل فرصة وباتت اللوائح سلاحا تشهره الكتل في وجه بعضها البعض للغايات السياسية البحتة بعيدا عن البحث عن المنفعة العامة الوطنية حتى بلغت اللحظة البرلمانية الراهنة مرحلة الخلاف المفتوح على مصراعيه دون هدف وطني خالص موحد يجتمع عليه النواب الممثلون للشعب، ودون وجود أغلبية برلمانية مستقرة ومنسجمة تخلص البرلمان من الفرقة والانقسام والتناحر. الإيديولوجيا تحكم التفاعلات النيابية أصبحت الإيديولوجيا الحزبية الضيقة سمة الفعل البرلماني وخلفية الأداء النيابي والخطاب تحول عند كثير من النواب إلى وسيلة عداء وتهجم في كثير من الأحيان بخلفية معركة انتخابية وتحصيل جمهور ناخبين ومؤيدين وليس للبرهنة عن مدى التزامهم بخدمة قضايا ممثليهم الرئيسية الجوهرية والبحث عن علاج للمشاكل اليومية وبالأخص الاجتماعية والاقتصادية والخدماتية والتشارك مع كتل أخرى في ذات التوجه، بل أصبحت كل كتلة تسعى لإظهار ما يجعلها مختلفة ومتفوقة على الكتلة الأخرى أخلاقيا وسياسيا حاضرا وماضيا. ويمكن القول إن البرلمان تحول إلى منصة سياسية تستغل الكتل تواجدها فيها لعرض مشروعها السياسي للدولة والمجتمع والعلاقات الخارجية والمواقف من الآخر المختلف فكريا، حتى انحرف مجلس النواب عن الهدف الأساسي له وهو التشريع لمعالجة مشاكل مستفحلة في التنمية وتعطل الدورة الاقتصادية والفساد المستشري في أجهزة الدولة، فغاب أو يكاد الاهتمام بالواقع المرير لجميع الفئات والجهات وتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ما بات ينذر بأزمة خانقة ما بعد أزمة كورونا. ولم تتمكن الكتل النيابية من تجاوز الاختلافات الايديولوجية والمعارك الانتخابية، بل إنها تستعد عبر هذا الأداء البرلماني المخيب لآمال قطاع واسع من الشعب التونسي لمرحلة لاحقة من الاستحقاقات الانتخابية لكنها تغفل معطى مهما كشفت عنه المحطة الانتخابية الأخيرة وهو العزوف عن الساسة والسياسة والانتخاب والأحزاب ترجمته نسبة المشاركة الضعيفة، ولا شك أن الصراع البرلماني الحالي سيساهم في نفور جزء آخر من التونسيين. غياب أغلبية برلمانية تسند العمل الحكومي لم تترجم الأحزاب التي شاركت في الحكم الائتلاف الحكومي إلى ائتلاف أغلبية برلمانية، وتخلت بعد لحظة التصويت عن الحكومة عن التقارب فيما بينها إلى العودة لقواعدها الخلفية بعد مد جسور التواصل والتحاور بينها، حيث لم ترسخ مرحلة الحوار حول الحكومة وتركيبتها وأهدافها لتصبح سمة مرحلة ما بعد المصادقة على الحكومة، بل إن كل كتلة ذهبت تبحث عن خياراتها بعيدا عن الكتلة الأخرى، فتفرقت السبل بعد أن توحدت حول الحكومة التي أصبحت "يتيمة البرلمان"، فهي لا تمتلك سندا برلمانيا متينا يمكّنها من دفع خياراتها التي شكلت من أجلها، وقد تغرق في أول اختبار تمرير مشروع قانون حين ينتهي استثناء التشريع لرئيس الحكومة، ما يشي بمرحلة بالغة التعقيد إذا لم يتم التوافق على موقف واضح بين كتل النهضة والكتلة الديمقراطية وتحيا تونس حول التزام بجبهة برلمانية مشتركة تنهي العبث القائم في البرلمان وصراع الكل ضد الكل . لم تفهم جميع الكتل، على ما يبدو، أن الأغلبية لا يمتلكها أي طرف. فنتيجة الانتخابات جاءت ببرلمان فسيفسائي، فرضه الأمر الواقع بعدم إمضاء الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في جويلية 2019 على تنقيح القانون الانتخابي بإقرار عتبة 5 بالمائة. وكان من المفروض أن يحتم ذلك على كبرى الكتل فيه التفاهم على أرضية صلبة لمنح الاستقرار السياسي في البلاد في أهم مؤسستين هما مجلس نواب الشعب والحكومة. فلا استقرار للتشكيلة الحكومية، ولا نجاعة في عملها إلا بجبهة برلمانية تسند عملها وتدفع بخياراتها، وهو ما لم تنجح فيه الكتل المشكّلة للائتلاف الحكومي إلى حد الآن. القوى المضادة للثورة تعرقل البرلمان لم تخف زعيمة الثورة المضادة عبير موسي منذ اليوم الأول للبرلمان تربصها بجميع من فيه، حتى أولئك الذين انتموا إلى النظام السابق وتصالحوا مع حاضر تونس الديمقراطي. وعملت بجهد كبير لعرقلة البرلمان وإعطاء صورة فوضوية عنه وعرقلت اعماله وجر الجميع لمستنقع الخصام والشتائم والرداءة والحروب الكلامية، وهو في صميم عملها لإثبات أن تونس "قبل الثورة خير" وجني مكاسب سياسية على حساب كل من يدافع على الثورة وخياراتها ومؤسساتها التي أنتجتها. ولا تتحرج عبير موسي في إبداء عدائها لاستكمال الانتقال الديمقراطي، ولا تخجل في مناهضتها لكل ما هو نتاج ما بعد 14 جانفي 2011، وانعكس ذلك على دورها في البرلمان. فما تأتيه من خصومات وشجار عنيف وزعزعة لاستقرار الأداء البرلماني عبر وأد كل محاولات التقارب بين المؤمنين بالثورة والتغيير، هدفه منع أي تقدم في أعمال البرلمان وإرساء الهيئات الدستورية واستكمال الانتقال الديمقراطي، وهو هدف محور الثورة المضادة في العالم العربي الساعي لبث الفوضى في تونس آخر معاقل الثورة عربيا، المنيعة على الردة والرجوع للديكتاتورية. إن التفتت والتشرذم البرلماني والصراع المفتوح تفويت للفرصة على الديمقراطية الناشئة والخيار الوطني الأساسي المتمثل في استكمال الانتقال الديمقراطي ودفع التنمية الاجتماعية والاقتصادية مما يقتضي من المؤمنين حقا بخيارات الثورة حماية المسار من سلبية الأداء البرلماني وتكوين جبهة برلمانية توافقية مثلما حدث عند تشكيل الحكومة لضمان النجاعة على عمل مجلس نواب بات مصدر توتر سياسي في البلاد. كريم البوعلي