كثر في الأيام القليلة الماضية الحديث عن الوضع الاقتصادي وانعكاساته الاجتماعية بنبرة تشاؤمية وصلت إلى حد وصف الحالة بالكارثة ولم يكن هذا الوصف مقتصرا على بعض الفر قاء السياسيين بل بمشاركة بعض المختصين في المجال .وإن كان موقف السياسيين مفهوم لاعتباراتهم السياسية والانتخابية الضيقة و الغير مبرر لاعتبارات علمية وموضوعية إلا أن ما لفت الانتباه هو انخراط بعض ممن يوصفون بأنهم خبراء في الميدان في هذا النمط من التقييم للحالة الاقتصادية والاجتماعية لبلدنا بعد عامين من الثورة المباركة والتي حسبناها أتت من جهة على نمط للعلاقة بين النخبة والمجتمع قائم على الاستخفاف عبر المغالطات أو قراءة لمعطيات غير محينة أو توجيهية وبشرت من ناحية أخرى بنمط جديد لتلك العلاقة يرتكز على احترام ذكاء الشعب والتعبير عن تطلعاته. ولعله من المفيد التذكير بان أهم العبر لثورتنا المباركة ونحن نحيا فجر عامها الثالث هي إحيائها للأمل في النفوس بقدرة المجتمع وهياكله الحية والفاعلة على فرض اختياراته بعد أن عملت آلة الاستعلاء عليه و الطغيان في الأرض على بث الوهن في النفوس و الاستسلام في العقول للأمر الواقع الذي كان يصور له عبر آلته الإعلامية وبتوظيف رخيص لمن هم محسوبون على الخبراء والمختصين في أكثر من ميدان. لذلك من المجدي لفت الانتباه إلى أن محاولات بث الإحباط في النفوس عبر ما يشاع باستعمال كل الوسائل هو في حقيقته يتعارض مع الرسالة القوية التي بثتها ثورتنا المباركة من جهة ومن جهة ثانية ارتكاب حماقة غير مقدرة العواقب على أصحابها و التي لن تزيد صناع الثورة في بلدنا إلا إصرارا على الاستمرار في تحقيق أهداف الثورة سواء ممن اختارهم الشعب في محطته الثورية الثانية يوم 23 أكتوبر 2011 بعد محطته الأولى يوم 14 جانفي أو من قوى المجتمع السياسية والمدنية عبر آليتين الاولى وسائل الضغط لفتا للانتباه بعيدا عن مقولة الغاية تبرر الوسيلة والثانية قوة الاقتراح مشاركة في صنع القرار. وبالعودة إلى الوضع الاقتصادي لا بد من الاستئناس برأي الجهات والمؤسسات وكذلك الوكالات المختصة الداخلية منها والخارجية سواء التي تعنى بشأننا الاقتصادي أو التي هي في علاقة مباشرة مع اقتصادنا على مستوى التمويل والاستثمار أو على مستوى المبادلات التجارية قبل إبداء الرأي الخاص والمنطلق من معطيات موضوعية وبمقارنات بسيطة تساعد على تعديل الرؤية في الموضوع وتناغما مع روح الثورة المحيية للأمل في النفوس والمبشرة بإمكانية النهوض بالبلاد وتحقيق عزة الوطن وكرامة المواطن. . لقد صرح محافظ البنك المركزي التونسي بان بلدنا خرجت من فترة الركود الاقتصادي سنة 2012 بتسجيلها معدل نمو تجاوز 3 بالمائة بعد ان كان سلبيا ب2 بالمائة في سنة 2011 كما أبقت وكالة موديز الدولية للتصنيف الاستثماري على درجة الاستثمار في تونس نظرا لتجاوزها مرحلة الركود الاقتصادي رغم العوائق التي اعترضت العملية الإنتاجية داخليا BAA3 والمبادلات التجارية الخارجية على حد سواء وذلك عبر النجاح نسبيا في جلب الاستثمار والتحكم أيضا نسبيا في عجز الميزان التجاري والمحافظة على الموازنات المالية الكلية رغم بلوغ نسبة الدين العام 46 بالمائة من الدخل الإجمالي الخام.هذا التصنيف يشير إلى أن مخاطر الاستثمار في بلدنا محدودة مما يسهل عملية الاستثمار الخارجي في اقتصادنا الوطني أضف إلى ذلك رتبة الشريك المتميز الذي منحها الاتحاد الأوروبي شريكنا الاقتصادي الأول لبلدنا حرصا منه على المحافظة على علاقاته التجارية معنا والتي لا تزال لصالحه – دون أن ننسى التخفيض في الترقيم السيادي لبلدنا في وقت سابق من السنة المنقضية 2012 والذي قد يؤثر سلبا على الاقتراض الأجنبي ويزيد في كلفته. إن النمو المسجل بما يزيد عن 3 بالمائة بعد الركود الاقتصادي الذي عرفه اقتصادنا سنة 2011 هو مؤشر ايجابي على قدرة التونسيين على تجاوز مرحلة الخطر التي تعقب كل الثورات مما ينبؤ بإمكانية تحقيقه لنسبة نمو اكبر خلال هذه السنة والسنوات القادمة خاصة إذا نجحت الحكومة الشرعية الحالية والحكومة التي ستفرزها الانتخابات القادمة بالتعاون مع منضمات العمال والأعراف والفلاحين وكل مكونات المجتمع السياسية والمدنية على بسط الاستقرار في البلاد شرط كل نمو اقتصادي ايجابي . ان النمو المسجل في سنة 2012 كان يمكن أن يكون اكبر لو احترم الجميع نتائج انتخابات الثورة وانفتحت التوريكا الحاكمة أكثر على كل من افرز تهم صناديق الاقتراع واحدث من اصطفوا منذ البداية في خانة المعارضة تغييرا عميقا في علاقتهم بالسلطة منسجمين مع التغيرات العميقة التي أفرزتها الثورة على مستوى السلطة وعلى مستوى وضع الحريات في البلاد عموما. ان نمو اقتصادنا بما يزيد عن 3 بالمائة لايعني استقرارا اقتصاديا الذي يبقى تحقيقه أمرا مطلوبا كما يفرض استمراره وضوحا في الرؤية ودستورا مصادق عليه وبحيز التطبيق مصاحبا بتشريعات تفصيلية دقيقة وواضحة و يستوجب استقرارا لمؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية التي نأمل أن تتكاتف جهود كل المخلصين في هذا الوطن “السفينة الجامعة لنا” إلى قيادته نحو شاطئ الاستقرار شاطئ إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي وحسم المعركة الانتخابية القادمة لصالح الثورة ان النمو الاقتصادي الايجابي المسجل في السنة الثانية للثورة خاصة في بلدنا الذي يتلمس طريق التنمية لا يعني تحقيق تنمية اقتصادية فضلا عن تحقيق تنمية اجتماعية -التي تبقى هدف كل تنمية سياسية واقتصادية حقيقية- وذلك لطبيعة التنمية ذاتها المتعددة الأبعاد والاتجاهات والمجالات ولفعلها ألتغييري على مستوى الذهنيات والهياكل وفق نظرة استشرافية للاقتصاد وللاجتماع وما يتطلب تحقيق ذلك من مدة زمنية طويلة نسبيا وكذلك مشاركة واسعة محليا وجهويا ووطنيا واستثمارا للخبرات والإمكانيات البشرية الهائلة التي تزخر بلادنا وتفتخر بها والقادرة لوحدها على إنتاج مستوى من القيمة المضافة لتحقيق زيادة لافتة وحاسمة في الثروة. وما تجدر الإشارة إليه أن الاستمرار في المنوال التنموي القديم لن يمكن من استيعاب الرأس المال البشري المتعلم الممثل بأصحاب الشهائد العليا نظرا لنوعية الشغل الذي يعرضه وسنبقى نراوح مكاننا بل سيؤثر ذلك حتما بطريقة سلبية على نسب النمو مستقبلا. لذلك كان لابد من استشارات واسعة لبلورة منوال تنموي جديد يؤطر الخطط والبرامج الاقتصادية المستقبلية ويرتكز على اللامركزية في القرار التنموي ضمن توجهات وطنية عامة يتفق عليها الجميع وبموارد مرصودة على ذمة القائمين على التنفيذ في مختلف المستويات محليا وجهويا ووطنيا مع اقرار آليات للمتابعة والمراقبة والتقييم المستمرين وهياكل للتنسيق بين مختلف المستوايات وفي اتجاهات ثنائية ومتعددة وفق المزايا التفاضلية لكل محلية أو جهة إحداثا للتكامل في العملية التنموية مع حسن توظيف لكل الطاقات البشرية واستثمار لكل الموارد الطبيعية والتراثية على ان يستفيد كل طرف بثمار جهده التنموي مع إشعاعه على الأطراف الأخرى ومد يد المساعدة لها حتى نتجاوز أخطاء تجربة التنمية المعتمدة على الأقطاب في ستينات القرن الماضي . أما على مستوى العلاقات التجارية الخارجية فقد أصبح تنويع وجهتنا مسالة حيوية ومصيرية يتوقف عليها مستقبل اقتصادنا والإبقاء على علاقات محدودة ببعض دول الاتحاد الأوروبي وبصفة منفردة ليس فيها أدنى تنسيق مع دول الجوار لن يكون مجديا فضلا عن إبقاء اقتصادنا غير محصنا وسريع التأثر سلبا بالوضع الاقتصادي والاجتماعي لتلك الدول كما هو وضعنا الآن مجسدا بتراجع الصادرات نظرا للازمة المالية واختيارات التقشف التي باتت تخيم على الوضع الاجتماعي في تلك البلدان مما يؤثر سلبا على طلباتهم وينعكس بالتالي سلبا على صادراتنا . ان زيادة قدرة اقتصادنا التنافسية وفتح آفاق أرحب لصادراتنا يبقى خيارا استراتيجيا مطلوبا يقلل من مخاطر العلاقات التجارية الدولية المحدودة ويفتح أمام منتجاتنا أسواقا واعدة كما أن اندماج اقتصاديات الشمال الإفريقي الذي نحسب آن بعض شروطه توفرت كالإرادة السياسية في دول الربيع العربي في المنطقة وواقع الحريات الذي هو بصدد التطور يمهد لإحداث تنمية اقتصادية في المنطقة قائمة على التعاون والتنسيق والتكامل وتقوى بذلك قدرتنا التفاوضية في ميدان التجارة الدولية مع الاتحاد الأوروبي وكذلك منظمة التجارة الدولية. إن إحداث تنمية حقيقية باعتبارها ضرورة حياتية وحماية لاستقرارنا الاجتماعي والسياسي وكذلك استقلال قرارنا السياسي ونظرا لما توفره من ضمانة لعدم عودة الاستبداد ما ان بقيت قائمة على محاربة الفساد و تتمحور حول تحقيق كرامة كل مواطن تونسي والمحا فظة عليها هو جوهر هدف ثورتنا المباركة الذي يبقى تحقيقه والنضال من اجله مسؤولية وطنية وأمانة جماعية حملنا إياها شهداء الحرية والكرامة و هي إحدى تعبيرات الوفاء لتضحيات أجيال وأجيال. إن القطع مع المنوال التنموي القديم المغلق والذي افرز بطالة وفقرا على المستوى الاجتماعي وعجزا ماليا وآخر تجاريا أصبح أمرا مفروغا منه كما أن الاعتماد على منوال آخر منفتح على العالم لا على دول بعينها والمعتمد على مصادر تمويل متعددة ومتنوعة أصبح مطلوبا أكثر من أي وقت مضى. إن ذلك القطع يتطلب عدم الاكتفاء بنمط التمويل التقليدي وتطعيم الدورة الاقتصادية بأنماط تمويلية جديدة ومتجددة أثبتت جدواها في كثير من الدول المشابهة لبلدنا على المستوى التنموي في معالجة ظاهرتي الفقر والبطالة كالتمويل الأصغر والتمويل الإسلامي ونظرا لنجاعة هذا الأخير خاصة في مواجهة الأزمات المالية التي أنتجها النظام المالي العالمي وكذلك في قدرته على استيعاب جزءا من القدرات البشرية التي بقت على هامشه. . وبالعودة إلى مسالة التشغيل كان لابد من تسجيل تراجع نسبة البطالة من 18.9 بالمائة في نوفمبر 2011 إلى 17 بالمائة في موفى أوت 2012 نتيجة إحداث أكثر من 72 ألف موطن شغل إضافي في القطاع الخاص دون اعتبار الانتدابات في الوظيفة العمومية والمنشآت العامة والتي ستوفر 31.500 موطن شغل . وما يبعث على الأمل أن هذه الزيادة ب 72.400 موطن شغل رغم أنها أتت والبلاد لاتزال تتلمس طريقها نحو الاستقرار بعد أن عصفت باركان دولة الفساد والاستبداد فاقت 43 ألف المسجلة قبل عام من الثورة آي سنة 2009 وهذا دليل على قدرة هذا المجتمع على رفع التحديات واستعداده للبذل والعطاء أكثر ما ان توفر له الأمن ولممتلكاته الخاصة والعامة وما استقر الوضع السياسي والاجتماعي في البلد. أما على مستوى آفاق التشغيل فمن المطمئن تسجيل مشروع الإستراتيجية الوطنية للتشغيل والتي تتضمن نتائج العمل المشترك الموجه لمصلحة المعطلين على العمل وهو مجموعة برامج تمتد من 2013 إلى 2017 لفتح سوق الشغل أمام حاملي الشهائد العليا هذا المشروع في انتظار الإقرار وتوفير كل مستلزمات وشروط النجاح نظرا لأهميته الاجتماعية بحكم اندراجه ضمن مسار تحقيق أهداف الثورة ولأهميته الاقتصادية والتنموية عموما لما سينتج عنه من زيادة معتبرة للقيمة المضافة وذلك لطبيعة مواطن الشغل التي ستحدث ولنوعية المنتدبين. ولعله من المفيد الإشارة في الختام إلى أهمية الاعتماد الدائم على منهج الاستشارات الواسعة في مختلف المجالات التنموي وتفعيل العقد الاجتماعي الموقع عليه مؤخرا بين الحكومة واتحاد الشغل ومنظمة الأعراف والعمل على اتخاذ كل القرارات التي من شانها بسط الاستقرار السياسي والأمني وحسم ملفات الفساد القديم ووضع آليات مقاومة استمراره وتفعيلها. نجم الدين غربال استاذ اقتصاد وباحث في التنمية