لطالما كانت مشكلة التحرش الجنسي من القضايا المسكوت عنها في المجتمع العربي، والتي يتردد المجتمع في طرحها ونقاشها ، لكن الأمور اختلفت في القرن الواحد والعشرين عصر ثورة الاتصالات، حيث لم يعد هناك شيئا خافيا، وبإمكان أي امرأة أو فتاة أن تجاهر عبر صفحاتها الخاصة في مواقع التواصل الإجتماعي بتعرضها لتحرش تدين من خلاله المتحرش، والمجتمع الذكوري ككل الذي يسمح بالتكتم على مثل هذه الظواهر المؤذية لكيان المرأة ككل. منذ عدة أشهر انطلقت حملة "me too " عبر هاشتاج أطلقته الممثلة الأميركية أليسا ميلانو على تويتر يشجع النساء على الاعتراف بتعرضهن للتحرش ، الحملة أدانت المنتج الفني الأمريكي هارفي واينستين بارتكاب انتهاكات جنسية، وكانت بمثابة لحظة إماطة اللثام عن كثير من المتحرشين المسكوت عنهم، وعن نساء وفتيات شهيرات تعرضن للتحرش، وتجرأن على الاعتراف علانية عن تأثير ما حدث على حياتهن؛ وسرعان ما تعدت الحملة تويتر لتشمل كل وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك، وإنستاغرام وسناب شات، وغيرها، وقامت نساء كثيرات عبر العالم بكتابة عبارة "me too "، تأكيدا على تعرضهن للتحرش هن أيضا، الفيسبوك وحده كشف صدور اثنا عشر مليون منشور على الأقل يحوي هذا الهاشتاغ بعد مرور أربع وعشرين ساعة من صدوره. وفي أميركا، كشف الهاشتاج عن تعرض المرأة الأمريكية لتحرش كل 98 ثانية وأن امرأة أو فتاة أميركية من بين كل ستة تتعرض لحادثة اغتصاب. في العالم العربي، لم تظهر نساء شهيرات أو فنانات للاعتراف بتعرضهن للتحرش، بل شاركت بها سيدات وفتيات عاديات اعترفن بأنهن تعرضن للتحرش سواء خلال الطفولة من أحد الأشخاص المقربين من العائلة، أو في الشارع خلال تواجدهن في المواصلات العامة مثلا، أو أي مكان عام آخر. المشكلة إذن تتعدى كونها تحدث في بلد واحد، بل الأمر المؤكد أنها تكاد تكون ظاهرة ترتبط ببعض الرجال الذين يرتضون على أنفسهم من موقع سلطتهم، أو قوتهم المهنية أو الجسدية أن يقوموا بدور المتحرش. وفي الإطار عينه، أنتجت السينما المصرية منذ عدة أعوام فيلم ( 678) الذي أثار ضجة عالية ، لأنه تناول ظاهرة التحرش الجنسي في مصر، حيث عالجت أحداثه تأثير التحرش على أمن واستقرار المجتمع، كما عرض الفيلم تأصيلا لهذه الجريمة التي ترتكب يوميا في الأماكن العامة والتي تهدر آدمية المرأة المصرية من خلال قضية شائكة وجارحة قدمها الفيلم برؤية فنية، عن خطر استفحال ظاهرة التحرش الجنسي وتحولها إلى وحش لا يمكن السيطرة عليه. تقول هند..31 ( عاما) موظفة، نعم تعرضت للتحرش مرات كثيرة في الشارع، وهذا وارد حدوثه يوميا، ظاهرة التحرش ليس لها علاقة بما ترتديه المرأة من ثياب، أو بشكلها الخارجي، عشرات الحوادث التي رأيتها أمامي لفتيات محجبات بل ويضعن النقاب، وفجأة نسمع صراخهن يعلو في وجه أحد الرجال المتحرشين. وتؤكد هذا الكلام جنى (26 عاما) صيدلانية، أن ظاهرة التحرش منتشرة أكثر مما يمكن تخيله، وعلى مرأى ومسمع من الجميع ، وتضيف: في كثير من الحالات يحصل تواطئ لتبرأة الرجل، وعلى الرغم من أن القوانين الحالية أصبحت لصالح المرأة، وتدين المتحرش إلا أن العرف الإجتماعي غالبا ما يطلب من المرأة أو الفتاة التي تتعرض للتحرش أن تصمت ولا تتحدث عن الواقعة، وأن لا تشير بأصابع الإتهام نحو المتحرش، وطالما هناك صمت وتواطئ عن هذه الجريمة ستظل مستمرة، وسنظل نخاف على أنفسنا وعلى بناتنا في المستقبل من أي تواجد في مكان عام، يكن فيه عرضة لأي يد بغيضة تمتد إلى أجسادهن. في المقابل كشف المركز المصري لحقوق المرأة اعتراف العديد من مرتكبي التحرش المعترفين بعدم خجلهم من ممارسة هذا الفعل تجاه أي سيدة حيث يرون أنهن السبب في ارتكاب مثل هذه الأعمال ضدهن بسبب ملابسهن المثيرة. يقول وائل نصر الدين باحث اجتماعي استفحلت الظاهرة في المجتمع المصري، مؤكدا أنه خلال تجربته في رصد هذه الفئات من المتحرشين وجد أن أغلبهم يعانون من أمراض نفسية،وعن تجربته مع هذه الحالات يحكي قائلا: في إطار بحثي في موضوع التحرش اكتشفت أن هذا الفعل الشاذ لدى مرتكبيه تحول إلى مرض، وأشار إلى أن "من بين المتحرشين أشخاص يمتلكون سيارات، ولكنهم اعتادوا على ركن السيارة بصورة يومية، ثم يمشون أو يركبون ميكروباص أو أتوبيس لكي يمارسون التحرش براكبات الأتوبيس. ويرجع مثل هذا السلوك إلى نوع من الإدمان السلوكي، ويصنف في إطار العلل النفسية والسلوكية. المحامي عمرو اسماعيل يقول عن هذه الظاهرة : هناك أسباب عدة للتحرش الجنسي، وتعزي إلى تفاقم هذه الظاهرة دون خوف مرتكبيها من المساءلة، أولها صمت الضحية التي يتم التحرش بها خوفاً من الفضيحة، والجهل سواء من المتحرش الذي لا يعرف أن ما يقوم به هو مرض في حد ذاته يستحق العلاج، والكبت الذي يعاني منه الشباب في ظل ارتفاع معدلات البطالة في مصر وعدم القدرة على الزواج ، والمطلوب للحد من هذه الظاهرة حدوث تكاتف اجتماعي بين عدة أطراف تعمل على بث التوعية بين الفئات القليلة التعليم في المجتمع، وفي الوقت عينه تعمل على توعية النساء بحقوقهن، وأن لا يصمتن على خجوث التحرش بل يكشفن بشجاعة عما حدث كي لا يتكرر مع ضحايا أخريات. وردا على البرامج والأفلام التي أساءت بتناول القضية للدين والمجتمع المصري.. يقول د. لطفي خيرالله أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس أن الدراسات أجمعت على وجود أسباب متعددة لظاهرة التحرش الجنسي، ومن بينها أسباب تتعلق بالفقر وتدهور القيم الدينية وانتشار القنوات الإباحية والملابس الفاضحة وعدم كفاية العقوبة الجنائية لمرتكبي هذا الفعل الشاذ، معتبرا أن ربط الأمر بالخطاب الديني وحده يحمل تضييقا للموضوع وتحميلا للخطاب الديني خاصة أن العديد من المناقشات الإعلامية والأفلام ربطت بين هذين الأمرين، وقصرتهما في حجر المجتمع المصري مسيئة بذلك الى سمعته؛ مشيرا إلى أن للموضوع أبعاد أخرى يجب أن ترصدها السينما والإعلام في طرح للقضية مرة أخرى، ومنها: هل تقتصر ظاهرة التحرش على مجتمع بعينه أو فترة تاريخية بعينها؟ ويضيف: إن المشكلة واقعية بثتها وسائل الإعلام من المجتمع وإليه مرة أخرى دون أن توجه إلى حلها ودون الاشارة إلى تحريم ذلك ونبذه في الأديان: المسيحية والإسلام، فضلا عن تسليط الضوء على دور الرقابة الأمنية وتغليظ العقوبة للحد من هذه الجرائم.. المسئولية لا تقع وحدها على الأمن والقضاء، بل يلقى عاتقها بصورة أكبر على الفن والإعلام، إذ لا يكفي رصد هذه الظاهرة المجرمة كإحدى الظواهر السلبية في المجتمع، إنما أيضا الوقوف على أسبابها والتوجيه الأمثل لحلها مع المسئولين، ولا يجب أن نغفل أيضا دور المجتمع المدني والرقابة الاجتماعية التي تبدأ من الأسرة ودور التربية والعلم.. تلك قضية تتفاعل فيها كل جهات الدولة. سعاد محفوظ