من المفارقات أن ينشأ حزب سياسي في مرحلة انتقالية محفوفة بمخاطر الاحتقان والانفلات، ويتنامى تأثيره بسرعة فائقة فيفوز في الانتخابات التشريعية ثم في الانتخابات الرئاسية ويتحمل مسؤولية حكم البلاد قبل أن يعقد مؤتمره التأسيسي. لكن ما يثير حفيظة المهتمين بالشأن العام في تونس على وجه التخصيص، هو هذه الفوضى التي عمَّت في الآونة الأخيرة داخل بيت نداء تونس بسبب تفجر الصراعات السياسية والذرائعية داخله، وما أعقبها من تصدع وانشقاق باتا ينذران بتداعيات خطيرة على الحزب والبلاد. وقد تأسّس نداء تونس منذ البداية دون أرضية فكرية مشتركة تساهم في تحديد ملامحه الأساسية، وهذا ما جعل منه تركيبة قابلة للتفكك ومعادلة قابلة للقسمة كلّما اشتد الخلاف بين هياكله، وأعاد إلى السّطح اشكالات لم تُحسم ارتباطا بأنّ الحزب أُسّس على عجل، ولم يجد الوقت الكافي لمعالجة التصدّعات الحاصلة بين جزئياته، لكن بعد تحقق الهدف الأوّل للحزب بالفوز في انتخابات 2014 بالمرتبة الأولى، ظهر ككتلة غير متجانسة تجمع متناقضات قد يربطها المشروع لكن الآليات تفرقها جذريا. فعندما تجمّعت نواة التأسيس، والتي جمعت بين المنتسبين إلى النظام التجمعي والبورقيبي القديم وقيادات يسارية راديكالية، على غرار محسن مرزوق ولزهر العكرمي ونور الدين بن نتيشة، وأعلنت عن نفسها في 16 جوان 2012 لم تعلن عن حزب كلاسيكي قائم على وحدة تاريخية وفكرية وسياسية وعلى موروث ايديولوجي، وإنما كانت أشبه بالتقاء عدد من الفاعلين السياسيين من ذوي التّجارب السياسية، جَمَعهم طموح العودة إلى الفعل السياسي حينها، وقد نجحوا في تعبئة وتحشيد المناصرين له، وتجميع الصفوف وتسخير كلّ الامكانيات للفوز في الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، وبعد صعود مؤسّس الحزب، الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الجمهوريّة، بدأت ملامح التناقض تطفو على السّطح، وتصارعات أحلام الزّعامة بين قيادات الحزب. وظهر في أول الأمر صراع حول هندسة القرار والتأثير في سياسات الدولة بين مستشاري قصر قرطاج وهم أساسا رضا بالحاج ومحسن مرزوق وبين وزراء القصبة خصوصا وزير الخارجية الطيب البكوش ولزهر العكرمي الوزير المكلف بالعلاقات مع مجلس النواب، ولكن هذا الصراع بين مجموعة التأسيس لم يذهب إلى أقصاه نظرا للدور التعديلي الذي لعبته الشخصية الأبوية للباجي قايد السبسي. ومع ظهور السّبسي الابن، بدأ الصّراع يأخذ منحا جديدا وأصبحت السيطرة على جهاز الحزب أبرز عناوينه. وقد سعى حافظ قايد السبسي إلى المسك بالأداة التي صنعت الانتصار الانتخابي من خلال خلق شبكة من الولاءات الجديدة صلب الهياكل الجهوية والمحلية وداخل المكتب التنفيذي، وأقصى بذلك كلّ مخالفيه الرّأي، وانفضّ مؤسّسوا النّداء عنه، بعد مناكفات بلغت درجة الاعتداء الجسدي في حادثة “الهراوات” الشهيرة في اجتماع الحمامات. وقد لعب قصر قرطاج دورا هامّا في تغذية الصراعات داخل نداء تونس، من خلال الانحياز للسبسي الابن، انحياز بلغ درجة إزاحة بعض الوزراء غير المنحازين لجناح حافظ قايد السبسي على غرار وزير الخارجية الطيب البكوش ومحمود بن رمضان الذي تم نقله من وزارة النقل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. ومن هنا تعدّدت الانشقاقات على الحزب، وانبثق عن الحزب أحزاب متعدّدة، فقد أسّس محسن مرزوق حزب مشروع تونس، ورضا بالحاج أسّس “تونس أوّلا”، وسعيد العايدي أسّس حزب “بني وطني”، وحزب “مستقبل تونس” للطاهر بن حسين، خلافا لقيادات ومؤسّسين فضّلوا المشاركة في الحياة السياسيّة دون لافتة واضحة. وبسبب ما أطلق عليه المنسحبون من نداء تونس والمنشقين عنه، “التفرّد بالرّأي” وسياسة التّوريث، تواصلت أزمة نداء تونس وازدادت تعمّقا مع بداية السّنة السياسيّة الأخيرة قبل انتخابات 2019، خاصّة بدخولها منهزمين بعد تراجع رصيد النّداء وشعبيّته في الانتخابات المحليّة -البلديّة- حيث خسر النّداء مايقارب مليون ناخب من قاعدته الانتخابيّة. ويشهد الحزب منذ 6 أشهر أزمة استقالات متتالية استنزفت منه الكثير، بسبب السياسات غير الموفّقة لقيادة النّداء حينها والممثّلة في السبسي الابن. وقد بلغت القرارات والمواقف الاقصائيّة في نداء تونس لكلّ معارض لهوى نجل الرّئيس، إلى درجة تجميد عضويّة رئيس الحكومة، يوسف الشّاهد، ممّا زاد في حالة الاحتقان والرّفض الدّاخليّة، وتحوّل النّداء بفعل موجة الاستقالات في صفوف النوّاب، من المرتبة الأولى برلمانيّا إلى المرتبة الثّالثة. ومثّلت كتلة الائتلاف الوطني، الواجهة المثاليّة لنوّاب النّداء المستقيلين، والمساندين ليوسف الشّاهد. ويبدو أنّ قطار الاخفاقات لم يتجاوز سكّة النّداء بعد، فقد زادت تجربة دمج الاتّحاد الوطني الحرّ في مؤسّسات الحزب وتمكين سليم الرياحي من الأمانة العامّة بين عشيّة وضحاها دون استشارة التنسيقيات والمكاتب الجهويّة، ومن حالة الاحتقان داخل ما تبقّى من الحزب، فقد تمّ التسويق إلى تجربة الاندماج على أنّها قرار جريء، قد يغيّر واقع النّداء في اطار سياسة لملمة الصّفوف والشّقوق. انّ تسليم مفاتيح الحزب إلى سليم الرياحي، رغم عدم انتمائه للعائلة الفكريّة التي تأسّس عليها نداء تونس، ورغم حداثة تجربته السياسيّة، يعتبر خطوة أخرى نحو المجهول الذي بدأنا نلامس ملامحه، بعد حديثه عن تخطيط رئاسة الحكومة وقيادات مقرّبة منها، إلى انقلاب على رئاسة الجمهوريّة. قضيّة واتهامات أثارت سخرية الطبقة السياسيّة من سذاجة الطّرح، والسّبب أنّ رئيس الحكومة دستوريّا يملك كلّ الصلاحيات لممارسة السّلطة التنفيذيّة، وهو في غنى عن انقلابات ناعمة كانت أم خشنة، حسب رأي المحلّلين السياسيّين. وهناك من يعتبر أنّ صراعات نداء تونس التي يعيش على وقعها بالأمس واليوم ، هي في الواقع اشكالات مؤجّلة لم تُحسم منذ التأسيس، وأنّ سبب الدّاء في النّداء، أزمة هوية.