أخبار تونس - لا يزال عدد من الأصوات الغربية يتعالى بالبحث والكتابة لدحض نظرية صراع الحضارات معتمدين في ذلك على ما يصطلح عليه ب “الحجة التاريخية” التي تعتبر معينا لإبراز تعايش الحضارات وتلاقحها. ويتنزل الكتاب الجديد للباحث الفيلولوجي الإيطالي ألفونسو كامبيزي “إفريقية وصقلية: توأم المتوسط” الصادر عن دار نشر “قرطاجنيات” في هذا التوجه الذي يجعل من البحث التاريخي والفيلولوجي نبراسا لحوار الحضارات والثقافات والأديان، حيث يؤكد الكاتب أن “العرب أعطوا الحياة لحضارة مزدهرة واستثنائية في صقلية مازال صداها حيا إلى اليوم، في وقت كانت فيه البلدان الأوروبية تتقهقر إلى أدنى درجات التعايش المدني والإقتصادي”. ويأتي الكتاب المترجم إلى الفرنسية من قبل التونسية عفاف المكشر في 116 صفحة من الحجم المتوسط يتصدره قصيد للشاعر الصقلي إبن حمديس “في وصف محاسن صقلية”، مقسما إلى أربعة أقسام تتبع الحضور العربي في صقلية عبر الفترات الأغلبية والفاطمية والنورمانية بإعتبار النورمان من أكثر الشعوب ولعا بالحضارة العربية فبلاط روجيه الثاني كان يتكلم العربية وكان روجي الثاني كون من حوله نخبة ثقافية وعلمية عربية من أمثال الإدريسي... يتوقف الكتاب كذلك عند الحضارة العربية في صقلية التي تميزت خلالها الجزيرة بإزدهار إقتصادي وتجاري نادر في تاريخها كما تميزت بزخم ثقافي جعلها تنافس حواضر الغرب الإسلامي الأخرى آنذاك. ليختم الكاتب ألفونسو كامبيزي كتابه بما تدين به صقلية للعرب في لهجتها وعاداتها وموسيقاها وفلكلورها وطبخها وتقنيات الصيد والفلاحة فيها وحتى في نكاتها وظرفائها إذ أخذ الصقليون عن العرب شخصية جحا التي تحولت باللهجة الصقلية إلى “جيوفا” الفكه. كما توقف الكاتب مطولا عند الآثار والشواهد المعمارية التي تركها تأثير إفريقية (تونس) في الأبنية والدير والكنائس والقباب والشوارع والبلاطات في صقلية. ولم يكتف الفيلولوجي الإيطالي في هذا الكتاب بإستعمال الأدوات التأريخية بل عضدها ببحث ألسني ومنهج مقارن شيق حيث نرى في صقلية اليوم ما نراه في مدن سوسة أو تونس ونسمع من شاعر صقلي ما نسمعه من شاعر عربي في تشبيه المرأة بالقمر كما يمكننا الكتاب من تقصي أوجه الشبه بين الجليز التونسي والجليز الصقلي وبين الحياكة في تونس والحياكة في صقلية حيث يتوقف الكاتب عند إزار لروجي الثاني مزركش بكتابة عربية ولاتينية ليأخذنا فيما بعد إلى فن “الفرازاتا” الذي تتوارثه الصقليات أمّا عن جدّة وهو فن تونسي في نسج الزربية المصنوعة من صوف الخرفان وذات الأشكال الهندسية والتي نجدها إلى الآن قرب تراباني في صقلية مما يذكر بالزربية القيروانية. وليس أشد دهشة من كشف الكاتب للأصل العربي للمعجنات التي لطالما أعتبرت إيطالية من أصل صيني جلبها ماركو بولو من الصين في حين يبين الكاتب أنها وجدت بصقلية مائة عام قبل ولادة ماركو بولو وأن الصقليين يسمونها “الطرية” وهي نفس اللفظة التونسية المعبرة عن عجين طري ويؤكد الكاتب أن “المعكرونة” الإيطالية طبخت لأول مرة زمن الحضور العربي في صقلية تحت مسمى”الطرية”. جولة تاريخية فيلولوجية توخّى فيها الكاتب منهجا إنسانيا منفتحا إذ لم يقص -كعادة بعض الباحثين- المراجع العربية فالكتاب زاخر بتراجم أصحاب السير والمؤرخين والشعراء والعلماء وحتى الفقهاء العرب من أمثال الإمام سحنون القيرواني، كأن الكاتب بهذا التمشي أراد أن يثبت أن الحوار الفعلي للحضارات يبدأ أولا بالإستناد إلى مصادر الآخر المعرفية والتوقف عن الرفض الآلي لتصور مختلف أو مغاير.