إن رصد الشعرية في الكتابات القصصية قد لا يفضي بنا إلى تمييز اثر عن الآخر أو كاتب ما عن سواه.. فشعرية القصّة ليست إلا أوّل الشروط التي ينبغي أن نؤسس عليها إدراكنا لانتماء النص إلى هذا الضرب من الكتابة .. معنى ذلك ان القصة الخالية من الشعرية لا يمكن بحال أن ترتقي إلى مراتب القصص. وعلى هذا الأساس، فإن ملامح القصيدة من المفروض أن تكون قاسما مشتركا بين كل ضروب القصص، مع ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار من تفاوت في الشحنة الشعرية بين القصة والأخرى، وذلك أمر يجوز انسحابه على الكتابة الشعرية نفسها. ولعل إدراك التفات والاختلاف بين الشحنات الشعرية هو الذي يفضي بالقارئ في النهاية إلى اعتبار بعض القصص قصصا، وبعضها قصائد. وقد شعرت لدى قراءتي لعدد من قصص عبد الرحمان الهيشري ان من يطرق بوابات هذه النصوص ينتبه في لحظات عديدة إلى كونه طرق بوابات قصيدة سواء تعلق الأمر بالشكل أم تعلق بالمحتوى وطرق تبليغه إلى القارئ. 1) شكل القصيدة في قصص ع ه: ما يلفت الانتباه لدى قارئ عبد الرحمان الهيشري هو أن الرجل كثيرا ما يكون على احدى حالتين: حالة أولى تفصح فيها القصيدة عن نفسها منذ وخزة القلم الأولى في فقرة ما من فقرات القصة، بائحة بذلك عن شحنة عظيمة من الانفعال الشعري كان لابد لمبدعها من اطلاقها قبل أن يسترسل في النفس القصصي الذي تقتضيه الكتابة عادة وأمثلة ذلك كثيرة في قصص عبد الرحمان الهيشري، ومضت جنديا مأمورا هذه رحتلها الأولى بعيدا أعياها البحث ولم تظفر حدثتها نفسها أن تتمرّد يوغل الحبر عميقا في الورق ومضى يهدئ روعها متعللا ستعودني فعلا كما فعلت وحالة ثانية تتسرع فيها القصيدة في الافصاح عن نفسها عند نهايات الفقرات من القصة، كأنما لتقول إن الكاتب يحكي التدرج في حين بلوغ حالة الانفعال القصوى في أواخر الانشاد. كأن الحقل أصيب اصابته واستمد من عجزه الفناء فباتت أغصانه كأحلام له ولّت. انسحبت إلى الفناء مجلية بصرا طعينا في بساط الثلج. الدوار.. يهذي.. يجاهد العزق يطفو.. وإذا ما طفا، نادى عفوا سيدتي عطرك ماء. وتزيد الحيرة إلى المخادع وأقض حب الاطلاع مضاجع الأهالي، وحيكت روايات أولت أيامه يوما فيوما. هكذا تبدو فقرات عديدة من قصص عبد الرحمان الهيشري مصبوغة بالايقاع الشعري إما في أوائلها أو في أواخرها، وهما الحالتان اللتان يرد الايقاع فيهما جليا باعتبار ان اذن المتلقي إنما تنتبه بأعظم درجات الادراك إلى ما يقال لها أولا وإلى ما يقال لها أخيرا، دون أن أنفي مواضع الايقاع الجديدة في وسط البناء القصصي لكل فقرة من فقرات النصوص التي تم اعتمادها في هذه القراءة. 2) فحوى القصيدة في قصص ع ه: كثيرا ما يتمرّد عبد الرحمان الهيشري على تقاليد الكتابة القصصية، أو تتمرد شخوصه وأحداثه، فيخرج بها من أطر السرد واسترسال الوقائع أو تشكلها المتقطع، إلى أطر الومض والايحاء، بشكل يدعو القارئ إلى أن ينسج القصة التي أراد من خانات متناثرة في انسجام بيد الكاتب التي تحمل كل خانة قصيدة مستقلة بذاتها ومنخرطة في آن واحد في النسق القصصي الشعري الذي أسس عليه النص. ولعلّ أكثر تجليات ذلك تستشف من تأثيث الكاتب لقصصه بشخوص يكاد يكون مجرّد حضورها غاية في النص، تماما كما يوقظ الشعراء ذوات تاريخية أو أسطورية في القصيدة دون قصد تشريكها في صنع حدث أو تشكيل لوحة خاضعة للزمن والمكان. وبهذه الخاصية كثيرا ما يشعر قارئ عبد الرحمان الهيشري أن الحدث لا يخضع لإرادة الشخوص، فهؤلاء حاضرون للايحاء لا الحركة، محققين بذلك دورا شعريا لا دورا قصصيا تقليديا، بحيث لا يتجاوز الكاتب حد وصفهم أحيانا، تاركا لمجرد الوصف مهمة حياكة القصة. «الشيخ في جلسته صنم متآكل الأطراف كنتف جبل رجّه الزلزال». وإذا ما عنّ للكاتب أن يهب شخوصه الحركة في حلبة القصة فكثيرا ما تراه يسجل بحركاتهم صدمة لمتلقي الصورة وهو ما يميز النص الشعري عادة كقوله مثلا: «كفكفت دمعها.. ثم تركت البصل جانبا». وامعانا في رصد ملامح القصيدة في قصص عبد الرحمان الهيشري يمكن للقارئ أن يلاحظ أن النصوص التي أراد لها الرجل أن تتوالد فيها الأحداث والعقد ثم الخلاص إلى النهائيات بشتى ما تحمله هذه النهايات من أمل وإحباط وحكم ودهشة وصدمات كما هو منتظر عادة من هذا الضرب من الابداع، هي نصوص تكاد تكون خالية من كل ما سبق ذكره من ايقاع شعري ومن رمز ومن تغيب لطقوس السرد القصصي ومن اعتماد على التجريد الشعري في صياغة النص واختيار الشخوص، كما هو الشأن بالنسبة إلى أقصوصة «لكم ما تبقى» التي أكاد لا أقف فيها على موضع في بدايات فقراتها ونهاياتها خاضع لايقاع شعري ما على غرار ما تم التعرّض إليه آنفا. ولعلّ الأقصوصة التي أشرت إليها كانت بمثابة الاستثناء الذي يثبت القاعدة المتمثلة في أن قصص عبد الرحمان الهيشري كثيرا ما تشي بالقصائد التي تشتمل عليها ايقاعا وبناء. عسل الصبار (مثالا) 1) قراءة النص 2) التوقف عند مواضع الايقاع في بدايات الفقرات أو في نهاياتها. 3) التوقف عند الشخوص (هي العجوز..) 4) التوقف عند نهاية بعض الفقرات التي تجنح إلى القيام مستقلة عن جسد القصة كما هو الشأن بالنسبة إلى تقاطع القصيدة. بحيث يشعر القارئ أن الكاتب منعتق من شرط التواصل مع ما قيل وما قد يقال.. ملامح القصيدة في عسل الصبار بعد العنوان، تستوقف القارئ الجملة الأولى من النص: «واحتارت كيف تعود إلى الملكة خالية الوطاب». العسل والملكة مفردتان تحيلان القارئ إلى عالم النحل، مما يخلق لدى المتلقي صدمة عند استقبال المقصود بالنص، وتتعاظم الدهشة حين يبلغ بك الكاتب مرحلة لا سبيل إلى اليقين فيها لأن الشخصية الغامضة التي تجوب النص لا يمكن ان تكون نحلة ومبررات هذه الفكرة يزخر بها النص، كما انها لا يمكن أن تكون امرأة. يصدم القارئ كذلك بعدم اكتراث الكاتب بتقاليد الكتابة القصصية، حيث يعمد في النصف الأول من النص إلى اقتفاء شخصية ما تبحث عن زهرة قد يدلها عليها شيخ عجوز، في حين ان هذا الشيخ في هذا النصف من النصف شبه مغيب وغير حاضر حضور الشخوص التقليديين في القصة. أما في النصف الثاني فإن القارئ يكتشف انسياقا شعريا في ذهن الكاتب الذي يقتفي انفعالاته غير مكترث هذه المرة أيضا بما يمكن أن تفرضه طبيعة النص من متابعة للأحداث التي تستوعب الشخوص، فيعمد إلى اهمال شخصيته الأولى، وينساب في تأمل الثانية حتى يفرغ من كتابة النص ، تماما كما تنتهي القصائد عادة: منفتحة على فضاء ما غريب عن فضائها الأول، أو عائدة إلى فضائها الأول نفسه ولكن في شكل جديد.