روما - تونس - كتب عبد الرؤوف المقدمي تخلّف القمم العالمية مهما كان موضوعها، وأي كان حضورها، شيئا من الضجر و كثيرا من القلق. فالمساحات الواسعة للأماكن التي تعقد فيها، وضبط الحركة في اروقتها، اضافة الى «رسمية» الخطب الملقاة وتكرارها لطاحونة الشيء المعتاد تجعل الحضور في حاجة الى الكثير من الصبر والثبات حتى اذا ما خالف أحد الزعماء القاعدة، وكسر جمود المناسبة، وخرج عن النص المألوف اثار الانتباه وشدّ الانظار وارتقى بالقمة الى المستوى المعنوي لتسميتها اللغوية اذاك تنشط حركتها وتستعيد حيويتها، وتستردّ هيبتها فيتوّج ذلك الزعيم نجمها، وينتخب علمها. ولا اراني مبالغا عندما أقول ان الرئيس زين العابدين بن علي كان بحق نجم مؤتمر القمة العالمي حول الأمن الغذائي والوضع الغذائي في العالم الملتئمة بروما من 16 الى 18 نوفمبر الجاري فالرئيس لم يلك خطابا وانما قدم وصفة علاج، ولم يرد كلاما عاما مبهما وانما طرح افكارا ولم يحضرها للبروتوكول والتشريف وانما هو ذهب اليها لأداء واجب وقول حق فهذا العالم الذي تزخر اراضيه بكل أنواع الكنوز وتحمل من الطيبات ما يرضي كل فرد، ومن الرزق الحسن ما يسد رمق كل بطن، بدّل بالسياسات الخاطئة أولا وبالأنانية المفرطة ثانيا، وبالعبث العلي ثالثا عطاء الله الى ما قاد صوب رقم مفزع للمعذبين في الأرض، الذين يلتوون كل يوم جوعا، ويصومون قسرا والزاما. ودعنا بالمناسبة نستمع مجددا الى كلام الرئيس، لنتبين كيف طرد عن القمة ضجرها، واعاد اليها اهميتها. فقد قال سيادته ان مؤتمرنا هذا ينعقد في ظرف يتسم بتراجع اوضاع الأمن الغذائي في العديد من مناطق العالم، حيث بلغ هذه السنة عدد السكان الذين يعانون من نقص في التغذية قرابة مائة مليون نسمة، وتجاوز عدد الجوعى لأول مرة في التاريخ عتبة المليار نسمة. ولا شك، ان الأزمة المالية والاقتصادية العالمية كانت من بين العوامل التي زادت في تفاقم هذه الاوضاع وأدت الى تقلص الاستثمارات الخارجية المباشرة وانخفاض الطلب في الأسواق التي تستقطب نسبة كبيرة من صادرات البلدان النامية، يضاف الى ذلك، ارتفاع مشط لأسعار المنتوجات الفلاحية اعاق هذه البلدان عن توفير الغذاء الكافي لسكانها. ولئن سجلت اسعار المواد الأساسية تراجعا نسبيا خلال السنة الحالية، فانها بقيت مرتفعة مقارنة بما كانت عليه قبل اندلاع الأزمة. ونحن مدعوون الى تكثيف جهودنا وتنسيق برامجنا من أجل تعزيز الآليات الكفيلة بمواجهة الأزمات الغذائية الطارئة. وفي هذا السياق، نجدد دعوتنا الى تفعيل «الصندوق العالمي للتضامن» الذي كنا اقترحناه على الجمعية العامة للأمم المتحدة وتم إقراره بالإجماع سنة 2002، لكي يسهم بدوره في الحدّ من مظاهر الفقر والجوع في العالم. ويتيح لنا هذا المؤتمر فرصة سانحة لتقويم ما تم تحقيقه في مجال الأمن الغذائي العالمي، ولاسيما فيما يتعلق بالأهداف التي رسمناها لأنفسنا خلال القمة العالمية للأغذية وقمة الألفية للتنمية حتى نتمكن من اتخاذ القرارات المناسبة التي تساعدنا على دعم الانجازات الحاصلة والرفع من نسقها، وإرساء تنمية فلاحية مستدامة في كل أنحاء العالم. إن أوضاع الغذاء في عصرنا تبعث على الانشغال وتحفزنا الى تشجيع الاستثمار في الفلاحة وتطوير آلياته، على غرار ما تم إقراره في قمة الدول الافريقية ب Maputo سنة 2003، عندما وقع تخصيص ما لا يقل عن 10٪ من ميزانيات هذه الدول لفائدة القطاع الفلاحي. كما ان الدول المانحة والجهات الممولة مدعوة الى الرفع من حجم المساعدات الإنمائية الموجهة الى الدول النامية، أسوة بالقرارات الجريئة التي اتخذتها قمة مجموعة الثمانية في l'Aquila خلال شهر جويلية 2009، والقاضية برصد عشرين مليار دولار على امتداد ثلاث سنوات لدعم النشاط الفلاحي بالدول المعنية. ونحن نتطلع الى ان تفضي المفاوضات الجارية في إطار المنظمة العالمية للتجارة، حول تحرير تجارة المنتوجات الفلاحية الى فتح آفاق جديدة أمام الدول النامية للنفاذ الى الأسواق الخارجية. ونظرا الى التأثيرات المباشرة للتغيرات المناخية وما تحدثه من خلل في توازن المنظومات البيئية والسياسات الزراعية والأمن الغذائي العالمي عامة، فإننا نؤكد الحاجة الى تكثيف الاستثمار في مجال البحث العلمي حتى يواكب هذه التغيّرات ويوجد الحلول المناسبة لها. كما نأمل ان يتوصل المؤتمر الخامس عشر للدول الأعضاء في اتفاقية الأممالمتحدة للتغيّرات المناخية، والاجتماع الخامس للدول الأعضاء في بروتوكول Kyoto، المزمع عقدهما ب Copenhagen في ديسمبر المقبل، الى بلورة برنامج تدخل حاسم يساعد على معالجة آثار هذه الظاهرة. ونحن ندعم المقترح المتعلق بالارتقاء بلجنة الأمن الغذائي العالمي الى المستوى الوزاري. كما نعبر عن تأييدنا لإقامة شراكة عالمية من أجل فلاحة متطوّرة ومزدهرة وأمن غذائي شامل ودائم. لقد تكلّم الرئيس بن علي في روما، بلغة وأفكار تتسم بالوضوح، والعمق، والشجاعة التي تثير في ذلك الحشد من المسؤولين الدوليين الإحساس بالمسؤولية وتنبه للخطر، ولا تدعو فقط الى الفعل بل ترسم إليه طريقه، وتكشف له أولوياته، ثم تزيد فترتّب تفاصيله، وتنظّم له أسلوب عمله. وفي روما ألقت السيدة ليلى بن علي حرم رئيس الجمهورية مداخلة حول تمكين المرأة من المعرفة للحدّ من الجوع، ذلك ان القطاع الزراعي يستوعب نسبا من النساء العاملات فيه تفوق أحيانا نسبة الرجال، تكدحن في هذا المجال الصعب، وتناضلن من اجل توفير ما يرضي الحاجة، وما يجلب أسباب العيش. ولكن أغلبهن أقدمن على هذا العمل الشاق، بدون تكوين مهني وعلمي يخوّل لهن معرفة كنه أسرار الأرض، وتطوير ما تنتجه، وتعويض جهدهنّ البشري الكبير، بوسائل أخرى تقلل من تعبهن، كما تزيد من حصادهن. ولا شكّ ان تناول السيدة ليلى بن علي لهذا الجانب وتنبيهها لهذه الزاوية وتركيزها على هذا المعطى، يعكس دقة التوصيف التونسي وعمق نظرته وشمولية طرحه عند انكبابه على هذه الملفات التي يتناسى فيها العالم او هو بالأحرى ينسى دور المرأة مع أنه احيانا رئيسيا ومركزيا هذا إذا لم يكن أهمّ وأشمل من دور الرجل. ولهذا السبب أيضا كان صوت تونس في ذلك الجمع المهيب، متميّزا ومختلفا، مثيرا للفضول وداعيا للاحترام معا. ولذلك أيضا، فإنه يمكن القول ان تونس أخرجت القمة من رتابتها فتطلّعت اليها العيون بعد ان غلب على نسقها تثاؤب الأفواه.