أعرف محمد الجويلي منذ سنوات الدراسة الجامعية وأعرف شغفه بالبحث في الهامشي والمنسي والمقصي في السياق الاجتماعي، وأحب أناقة لغته وهوسه بتدقيق المعاني وتوليد المصطلحات، غاب محمد الجويلي طويلا عن النشر منذ كتابه الممتع والرائع الصادر في منتصف التسعينات عن سيراس «مجتمعات للذاكرة مجتمعات للنسيان» قبل أن يسعدني مؤخرا بإهدائي كتابه الجديد الصادر في القاهرة عن مركز البحوث العربية والافريقية بتقديم للدكتور الطاهر لبيب «الثأر الرمزي تماس الهويات في واحات الجنوب التونسي». الكتاب الصادر في 230 صفحة محصلة دراسة مونوغرافية لقرية «المنشية» من جهة نفزاوة وتحديدا من ولاية قبلي درس من خلالها الثأر الرمزي وخصوصيات الحياة اليومية والدلالات الرمزية للتعبير الاجتماعي في قرية تأسّست حول مقام الوليّ الصالح سيدي حامد الحشاني وأحفاده من الحوامد وبعض القبائل العربية المستقرّة في القرية أو السابقة له فمجال هذا الكتاب الأساسي هو فهم ما يحدث في القرية حيث يسكن ويتفاعل بيض وسود أو أحرار و«شواشين» بالتعبير المحلي المتداول كما اهتم محمد جويلي في بحثه بإنتاج الرموز وتبادلها في الفضاء الواحي ويلخص جويلي قرية «المنشية» بقوله «تبدو لنا قرية المنشية كالقرى المجاورة لها في نفزاوة ثرية بمقاصد الفاعلين الرمزية من أجل بناء هويتهم. وتظهر لنا صيانة الحدود الاثنية وحفظها كما يتمثلها الناس ويحيونها على المستوى المحلي إحدى أهم ما انصبّ عليه اهتمامنا في هذه الدراسة». الباحث اعتمد في دراسته مقاربة بنائية وديناميكية مما أتاح له إعادة النظر في عديد القضايا والمفاهيم وقسّم الكتاب الى أربعة فصول: 1 حكايات القرية أو طرق الذاكرة النسبية في المنشية، 2 باب الشواشين أو استراتيجيات الأمكنة في قرية المنشية 3 الماء والكلمة قراءة استراتيجية في امتلاك 4 استراتيجيات التجلّي. وقد قال الدكتور الطاهر لبيب الذي كان وراء شغف عدد كبير من علماء الاجتماع وطلبته بهذا العلم الاستثنائي عن هذه الدراسة «إذا كانت هذه الدراسة هي دراسة مونوغرافية كما يصرّ على ذلك صاحبها فهو قد نجح في الخروج بها عن المونوغرافيات التقليدية المملة تلك التي كان على حق في نقدها. وقد أتاح له هذا الخروج عنها بناء نموذج تحليلي ذكي، كما أتاح له إعادة النظر في مفاهيم سائدة منها الجماعة الاثنية والداخل والخارج والحدود والمحظور وغير المحظور. هذه المفاهيم في قاموس المنشية هي على غير ما هي عليه في القواميس الجارية». ودراسة جويلي هي بحث مونوغرافي في تفاصيل الحياة اليومية في قرية المنشية في واحات نفزاوة وتفكيك لبنائها الرمزي من خلال العلاقات السائدة بين مجموعتين تتبادلان الرموز في تماس للهوية والفعل الرمزي. كتاب آخر يؤكد جدية علماء الاجتماع التونسيين من أجل تعميق السؤال حول اليومي والرمزي في المجتمع التونسي وهو كتاب على درجة كبيرة من العمق والدقة والامتاع.