بقلم آدم فتحي «لم يكن في وسعي أن أكتب وعلى رأسي شرطيّ». هكذا قال عبد اللطيف اللعبي ذات يوم شارحًا أسباب هجرته من المغرب إلى فرنسا سنة 1985، بعد خمس سنوات من عمر مجلّة «أنفاس»، وبعد ثماني سنوات من عمره في السجن، وبعد عقدين من الأحلام المجهضة، حاملاً وطنه معه مترسّخًا به في جغرافيا أخرى وفي لغة أخرى على امتداد سنوات، ظلّ خلالها جزءًا من «ثقافته الوطنيّة»، مكتويًا بنار أسئلتها، محاورًا بها ثقافة العالم، دون أن يتنكّر لنفسه ودون أن ينغلق عليها، دون أن يتخلّى عن اختلافه ودون أن يتاجر به. لذلك كلّه أسعدني فوزه المُستحَقّ بجائزة «غونكور للشعر 2009» تقديرًا لمجمل أعماله وتتويجًا لتجربته. وهو تتويج يتجاوز شخصه إلى كلّ الشعراء والكُتّاب الذين أنجبتهم ستّينات القرن العشرين وسبعيناته وثمانيناته، والذين ظلّوا أوفياء إلى متلازمة «الإبداع والالتزام» كلّ طريقته، على الرغم من جراد النميمة وغربان النعي ومراسم الدفن وأبواق الدعوة إلى الإغراق في الغيبوبة والتلهّي بالكلمات المتقاطعة والانشغال بشجون «السُرّة» تجنّبًا للإزعاج والانزعاج. ألّفَ اللعبي في الرواية والقصّة والمسرح والمحاولة النقديّة والترجمة والأنطولوجيا، لكنّه ظلّ شاعرًا أوّلاً وأخيرًا. وقد اكتشفتُ عالَمَهُ منذ بداية عهدي بالساحة في مطلع الثمانينات، وسرعان ما أضفتُهُ إلى قائمة الكُتّاب الذين ظللتُ حريصًا على متابعة أعمالهم قدر الإمكان. هكذا اطّلعتُ على «خطاب فوق التلّة العربية» (1985)، و«احتضان العالم» (1993)، و«مقاطع من تكوين منسيّ» (1998). كما قرأتُ له روايَة «تجاعيد الأسد» (1989) ومسرحية «قاضي الظل» (1994 التي عرّبتها الكاتبة المغربيّة الزهرة رميج سنة 2005 وأتيح لي الاحتفاء بها إذاعيًّا في الإبّان. ليس أصعب من شرح أسباب إعجابك بتجربة كاتب ما. فالإعجاب شبيه بخيمياء تتحقّق بعيدًا عن السطح، في نقطة الاشتباك بين مغامرة جماليّةٍ ومغامرة حسيّة، ينصهران في تجربة إنسانيّة تحاورك أو تستفزّك دون أن تبوح لك بأسرارها الكاملة. وقد رأيتُ الكثير من ذلك في تجربة اللعبي، من حيث البحث الجماليّ وترويض مختلف الأشكال والأجناس والبقاء على يقظة دائمة حيال اللغة والفكر، إلى جانب الهوس بالحريّة في مواجهة أسئلة الضعف البشريّ المقاوم. وإذا كان لابدّ من الاختزال فلأقل إنّي أُعجبتُ في تجربته بأمرين أساسيّين. الأمر الأوّل: فهمه للالتزام بوصفه ذلك الخيار الحرّ الذي يحصّن الكتابة من أن تصبح لعبةً تحمل نفسها على محمل الجدّ. لقد ظلّ دائم الانتباه إلى ضرورة الكتابة في فوهة البركان حيث يتحوّل الشأن العامّ إلى شأن خاصّ وحيث يتحوّل الشأن الخاصّ إلى شأن عامّ في اللحظة نفسها، في الانفجار نفسه، كي تخوض الكتابة مغامرتها الجماليّة بشكل عميق وحرّ، دون أن تفقد نسغها الإنسانيّ، ودون أن تتحوّل إلى تعلّة للتملّص من مسؤوليّة الشهادة والمقاومة والحلم والسؤال. والأمر الثاني: حرصه على تحرير اللغة من أغلال البلاغة، وبحثه عن معنًى متعدّد بعيدًا عن التضخّم المجازيّ الاستعاريّ الذي تفشّى في الكتابة العربيّة. إضافة إلى تعامُله مع اللغة الفرنسيّة تعامل المنفيّ في كلّ لغة. وهي محنة الكاتب حتى مع لغته الأمّ. حتى لكأنّه تائه يدخل برج اللغة المرتفع ليطلّ منه على أناه / آخره الضائع أبدًا، فإذا هو على مسافة كافية كي يحبّه بوعي أعمق وكي يحاوره بحريّة أكبر. من هذا المنطلق استطاع اللعبي أن يواجه دون عُقد سؤال المغربيّ أو العربيّ الذي يكتب بالفرنسيّة. ملتحقًا بقائمة مبدعين كثيرين يكتبون بشتّى لغات العالم، ونقرأ لهم، فنشعر بأنّهم يقولوننا ويعبّرون عنّا ويُحرّروننا من كوابحنا اللغويّة والفكريّة، أكثر من كثيرين آخرين يكتبون مباشرةً بالعربيّة. ولعلّ من أسباب سعادتي بغونكور اللعبي أنّها أنصفت شاعرًا حقيقيًّا وكاتبًا سامقًا حظي ويحظى بالتقدير والاحترام، لكنّه عانى كثيرًا من أشباه الكُتّاب الذين استخفّوا به ونعوهُ واتّهموه بالتسييس والمناسباتيّة واختزلوا أعماله في «أدب السجون»، ووضعوه في الأدراج كي يطمئنّوا إلى خلّو الساحة لهم ولأمثالهم ممّن توهّم أنّ الساحة الجديدة لا فرسان لها إلاّ من أتقن أساليب التآمر والشلليّة والعفس والرفس والعضّ في لحم الآخرين. ولم ينتبهوا إليه وهو يتألّم ويكتب ويتألّمُ ويحلم ويتألّمُ ويصمت ويتألّم ويفصح، بعيدًا عن هرج السيرك الثقافيّ الذي احترفوه، فاتحًا تجربته على آفاق أرحب، مُثْبِتًا مرّةً أخرى أنّ الكاتب الحقيقيّ يمشي في جنازة نُعاتِهِ حيًّا وميتًا، لكنّهم لا يعلَمُون.