أنا إبنة هذه الصحراء المحمومة الممتدة من المحيط إلى الخليج، حملتني أمي إثم هذا الشرك، سيف دمشقي في غمد تونسي، ولدت في جيل لقحوه بداء الحب وطعم الوطن، بروح العروبة وإنتماء الجذور، لا خلاص ولا شفاء، اليوم عروبتي مبتورة، لم يعد هناك معنى للوطن ولا إنتماء، صارت الكلمة نحن أولاً، لم تعد الحدود جغرافية بل أخطر، أصبحت عاطفية، عكسية، للمحافظة على بلدنا أولاً، أصبح الخصم هو جارنا لا عدونا، صار التخويف من الآخر العربي واستبدال المواقع بين الشقيق والعدو الحقيقي.. فأية مأساة تلك التي نشهدها؟أحياناً والحوار متحمس مع أناس أرافقهم يومياً ولكل إتجاهه الإيديولوجي، يبلغ منهم التأزم إلى درجة أنه تصيبني حالة من القمع الذاتي، أضمر عروبتي وقوميتي وكأنها جرم مشهود، منذ أيام شاهدت في إحدى القنوات العربية لقاء مع جيهان السادات لتقديم كتابها عن الإسلام . البرنامج كان في ارجاء القصر الموجود على النيل، والذي رغم إقامتها المستمرة في الولاياتالمتحدة حيث تكتب بعض المقالات في الصحف التي تتناول دائما قضية السلام في الشرق الأوسط، ورغم مرور 28 سنة على رحيل السادات، ما زالت تقيم في القصر مع الملاحظة أن زوجة عبد الناصر توفيت في بيته القديم قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، مما أحدث إرتباكاً في البروتوكول حين إضطر مبارك للتعزية، فالإحتياطات الأمنية صعبة في أحياء مصر الشعبية . تحدثت جيهان عن إعجابها بأوباما الذي قالت إنها تتوقع أن ينتهي الصراع العربي الإسرائيلي على يديه، وأنه يختلف تماما عن الرئيس السابق بوش، ثم أضافت: «أوباما يذكرني بالسادات من حيث لونه الأسمر ونهجه السياسي ودعوته للتغيير منذ تولى السلطة. وتحدثت جيهان السادات عن كامب ديفيد: مصر كانت بحاجة كبيرة لإتفاقيات كامب ديفيد، السادات كان يسعى إلى حماية الأجيال القادمة من الدمار والخراب وحمامات الدم التي عانت منها أجيال متعاقبة منذ حرب 48، وبعد عشر سنوات قامت الأردن بإتفاقية سلام مثل مصر، وناشدت جيهان الفلسطينيين بالإنخراط في محادثات سلام مع الإسرائيليين مشيرة إلى التجربة المصرية الناجحة. وعندما تحدثت عن رابين تنهدت متأسفة، ذاكرة أن رابين كان رجلاً فاضلاً خسره العالم أجمع . متناسية أنه أشرف على مجازر رهيبة في فلسطين، لكن ماذا يهم هي تتحدث عن مصر .ولا يهمها بزوغ يهودية إسرائيل وأفول عروبة فلسطين . السيدة جيهان تحدثت عن مصر، مصر أولاً، السادات حاول إنقاذ الأجيال القادمة، السلام من طرف واحد، هل هي على علم بأن كل شيء مسموح لإسرائيل في مصر، يشترون الأراضي في صحراء سيناء التي ردموا الجنود المصريين تحتها،يعمرونها فنادقاً وأماكناً سياحية تدر عليهم وعملائهم أموالاً طائلة، والأجيال المتعاقبة التي تتحدث عنها تجوع، والكرامة تنهك، والمعابر تغلق، تحكي السيدة عن السلام في الأردن، السلام مقابل الماء، حين أرسلت إسرائيل مياه المجاري التي لا تشربها حتى الجواميس، تناشد السيدة الفلسطينيين لمحادثات سلام مع الإسرائيليين، على أي أساس؟ على أساس البعد المنقوص للسلام المطروح؟ لنكسر المعابر ثم نتحدث عن السلام، هل سيترك الإسرائيلي للفلسطيني زيتوناته وبيارات برتقالاته؟ كيف يمكن حل الحد الفاصل بين المستوطن وصاحب الأرض؟ تعتقد أن الإسرائيلي أكثر تفهماًُ وقبولاً للسلام ؟ طبعاً لكن على شروطه . النقد الذاتي سهل لدى اليهودي التقدمي لأنه إستقر في الأرض. أما صاحب الأرض فليس له بديل، أين سيذهب وإلى أين؟ هل تقبله الأرض المصرية حيث إستشهد من دافع عن فلسطين؟ أي أرض سيتحدث عنها الفلسطيني، أرض 48؟ أم ارض ما بعد 67؟ أم ما بعد قرار 242؟ أم ما بعد إتفاقيات مدريد وأوسلو؟ الأرض التي تقتل فيها إسرائيل الأطفال والشيوخ؟ هل فقد الفلسطيني أرضه أم أن الأرض فقدت الإنسان؟ هناك فرق بين تحرير الأرض وتحرر الشعب، تحرير الأرض يعني تخليصها من الغير. تحرر الشعب يعني تمكن الشعب من الحصول على كافة حقوقه، تماما كالغير. تحرير الأرض يعني انتزاعها من مكانها، أو انتزاع ما فيها ومن فيها منها. وتحرر الشعب يعني أن يتمتع بكافة حقوقه السياسية. وأهمها حقه في تقرير مصيره. فهل هذا ممكن للفلسطيني في حواره عن السلام مع إسرائيل ؟ مع الأسف لم تعد القضية قضية عربية بل قضية فلسطينية، أو ربما من حسن حظ الفلسطينيين أن العرب تناسوا قضيتها، فبعد كل الحروب التي قام بها العرب خسرت فلسطين قطعة أرض وراء قطعة ارض، لم يعد المطلوب اليوم أن نرمي اليهود للبحر، بل أن لا يرمى العربي في الصحراء . لم تعد الدولة اليهودية خرافة، إنها موجودة وتغلبت على من أطلق عليها النعت الخرافي. لا أدري لماذا أزعجني حوار السيدة جيهان، ربما لأنها أزعجت حلمي المجتمعي، الذي يعود لأمّة ابتكرت الحروف الأبجدية، وعلمت سكان الأرض جميعًا الزراعة والتجارة والفلك .. وأضاءت للعالم من خلال رسلها درب الأخلاق والتوحيد.. واستطاعت أن تكون الأمّة المعلمة على مدى التاريخ.. هل هذا هو واقعها وحلمها.. أم أنه «واقع» الوهم اليهودي الذي يحاول جاهدًا أن يسرقنا منا ؟ عزائي أنني شاهدت في نفس المساء زيارة لوفد كبير من المثقفين السوريين في قطاع غزة مثمنا دورهم في كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ أكثر من ثلاث سنوات، من بينهم دريد لحام وجمال سليمان الذي لم يستطع تمالك دموعه وإنفجر باكياً وهو يشاهد دمار غزة. وحضر الجميع عرضاً مسرحياً تناول المصاعب التي يواجهها الفلسطينيون جراء العدوان والحصار الإسرائيلي المتواصل. قلت لقلبي خفف جراحك يا شقي فما زال للأمل نصيب.