«كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان».. هكذا وصف احد ابرز رؤساء التحرير في تونس الحوار الذي أدليت به للشروق بتاريخ 15 12 2009. لم أكن أتصور أن ينالني يوما الشرف بأن أكون موضوع مقال للأستاذ الكبير عبد الحميد الرياحي! ولم أكن أتصور أن تتحول بعض الكلمات التي أعتبرها أكثر من عادية، إلى سبب لقبول التهاني والشكر يوميا على هاتفي النقال وكأنني حررت القدس! وبقدر ما أسعدني ذلك، بقدر ما حز في نفسي أن يتحول المبدأ لاستثناء. أن يرفض أحدهم شتم بلاده على منابر الشيطان لأنه تعرض فيها لبعض العراقيل والمشاكل مع بعض صناع القرار، أو أن يرفض العمل لحساب فضائية تفخر بأن منبرها هو منبر لمن لا ضمير له، فإن ذلك حسب رأيي أمر أكثر من عادي وبديهي رغم حجم الإغراء المالي، ولا يستحق أن نتوقف عليه في الإعلام أو أن نهنئ صاحبه عليه. ولكن العيب في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الوطنية والمبادئ والقيم أمرا عجيبا غريبا. العيب في بعض القوم الذين يرون في الجحود فخرا وفي الإعتراف بالجميل غباء أو«قفة». العيب في البعض الآخر الذي احترف فن «الضربان على البندير» وبنى خطابه على «التزوير» فأصبحت تونس على لسانه بلدا تجاوز في الكمال والإتقان. لقد رفضت الخوض في موضوع حرية التعبير عن الرأي في تونس لسنوات من منطلق «أنّا يبلغ صوتي»، ولكني أرى اليوم في صمتي جريمة لا يحق لي إرتكابها في حق وطني. نعم بلدنا ليس من البلدان التي يمكن إعتبارها نموذجا في هذا المجال والنواقص عديدة والدليل أن بن علي جعل من التحدي عنوانا لبرنامجه السياسي ومن يتحدث عن التحدي فهو يقر بوجود نقائص ومشاكل وشوائب تستوجب رفع التحديات. ولكن، هل يمنعنا ذلك من الاعتراف بالتغييرات الجذرية التي حصلت في هذا العهد وخاصة في السنوات العشر الأخيرة؟ ألا نرى ما تتمتع به بعض الأقلام النزيهة الجريئة من حرية في التعبير عن الرأي؟ ألا نرى ما أسهمت به إذاعة الموزييك رغم أنها إذاعة خاصة (والكل يعلم من هو صاحبها) من تطوير للخطاب النقدي والمحاسبة والتعبير الصريح عن الحقائق وكشف المستور حتى وإن كان المستهدف وزيرا أو نائبا في البرلمان؟ أم أننا لا نشاهد برنامج «الحق معاك» الذي تخصص في فضح تجاوزات الإدارة وبعض المسؤولين؟ أو برامج قناة حنبعل الخاصة التي تفننت في عرض مآسي الناس ونبش الملفات الساخنة حتى وإن كان ذلك لأسباب تجارية لدى البعض ؟ عيب وعار أن نغمض أعيننا على كل ما أنعم الله به علينا، كما هو عيب وعار أن ندعي أننا بلغنا الكمال فالكمال لله وحده. يدعونا البعض طوال اليوم للنضال من أجل إستيراد نموذج الحرية والديمقراطية الغربية. عن أي نموذج يتحدثون؟ عن الإعلام الغربي الذي تسيطر عليه اللوبيات المالية والصهيونية؟ عن فوكس نيوز قناة الجمهوريين أم سي ن ن قناة الديمقراطيين؟ أم عن الإعلام الفرنسي الذي أصبح اليوم بشهادة الكل أداة في يد سركوزي؟ عن أي حرية تعبير يتحدثون؟ عن الحرية التي تجيز لك تصوير رسوم كريكاتورية لرسول يعتقد في قدسيته أكثر من مليار ونصف مليار بشر، ولا تجيز لك نقد كيان غاصب مجرم وتحكم عليك بالسجن إن أنت شككت في صدقية المحرقة؟ بل أن هؤلاء يتشدقون بدعم «الدول المتحضرة» لهم لفرض الحرية والديمقراطية في بلدانهم. فبأي ديمقراطية وحرية ينعقون؟ هل هي الحرية والديمقراطية التي أتى بها الغرب إلى العراق وباكستان وأفغانستان؟ أم هي نفس الحرية التي عندما أتت بحماس للسلطة، تراجع عن دعمها الغرب وحاصرها حتى الموت؟ ألم يتعلم العرب الدرس من قصة سيف بن ذي يزن؟ أم أنهم فعلا كما قال أحد زعماء الصهاينة في الكنيست الإسرائيلي: «لاتخافوهم فهم شعب لا يقرأ»! ثم ما هي حرية التعبير عن الرأي بالضبط التي ينادون بها؟ هل هي حرية نكران الجميل؟ أم هي حرية التطاول على الرموز والمقدسات؟ أم هي حرية الثلب والشتم كتلك التي نراها على القنوات الغربية التي تسمح لنفسها بإهانة الناس وإيذائهم واستنقاصهم باسم حرية التعبير عن الرأي؟ إنه لمن المؤسف والمحبط أن يصادر بعض المرتزقة حقنا في النضال من أجل تحسين أوضاعنا ودعم مكتسباتنا، خاصة وإنهم لو نفذوا للسلطة بأي شكل من الأشكال لأهلكونا بالقمع أو «بقلبان الفيستا». كما هو مؤسف ومخز أن يصادر بعض «المطبلين» حقنا في الوقوف في وجه هؤلاء المرتزقة لأنهم أساؤوا للوطنية الحق وأعطوا الفرصة للمشككين باتهام كل وطني نزيه غيور بالقفة. ولكنني أقولها (والله على ما أقول شهيد) وبصوت عال وبكل فخر واعتزاز: أنا ولد تونس وولد بن علي وولد النظام رغم كل ما أعارض عليه أو لا أقبله من ممارسات بعض المحسوبين على السلطة. وها أنا أعبر عن رأيي بكل حرية على منبر تونسي 100% وليس على منابر الغير، لأن «ولاد الأصل يغسلوا صابونهم في دارهم موش في دار الناس».