فراشها موضب لم تطأه منذ أيام، والوسادة اشتاقت إليها. الفراش والوسادة خاليان، تجلس عليهما امرأة تمرر على بياضها يديها وتعفر في خيوطها وجنتيها تتحسس رائحة «ابنتها» التي حلقت بعيدا عن المنزل منذ أسبوعين تنشد مرفأ تودع فيه أحلام طفولتها وتلقي على شاطئه بأسرارها كطائر «النورس». سيّدة بمنزلة الوالدة تبحث عن ابنتها التي اختفت منذ أيام وطفلة بصفة التبني تحلم منذ أعوام بلقاء والديها الحقيقيين وشقيقها.. هما باحثتان تجمع بينهما الدموع. بين خشية الفراق وأمل اللقاء. بين حضن متدفق وقلب متعطش.. إنها حبكة تراجيدية ورحلة بعيدة عن طاولة الدرس وأوراق الامتحانات وبعض التصورات.. تفاصيل هذه الواقعة أطرافها الفتاة «نورس» و«أبواها» بالتبني ووالدان وشقيق وأمل.. وهم مجهولون.. تفاصيل صعبة الهضم معقدة متداخلة الأطراف. التلميذة نورس (17 سنة) تغيبت عن محل إقامة «والديها» بحي دار الأمان في مدينة القيروان منذ يوم 8 ديسمبر دون أن يعثر لها على اثر بعد أن خرجت لإجراء امتحانات الأسبوع المغلق بإحدى المؤسسات التربوية القريبة من منزلها. وقد اتصل «والداها» بالجهات الأمنية لمساعدتهما في العثور عليها دون جدوى، رغم التحريات. وحسب رواية «الوالدة» «هنا» الحمري (51 سنة) فإن ابنتها (بالتبني) نورس لم تعد الى محل السكنى منذ أن غادرته صباح الثلاثاء 8 ديسمبر بعد أن خرجت لاجراء الامتحانات. وأكدت السيدة «هنا» انها اتصلت بجميع الأقارب والأصدقاء بحثا عنها دون اثر رغم مسحها لعدد كبير من الأماكن بالمدينة. ونظرا لتأخر «ابنتها» في العودة الى المنزل فقد التجأت السيدة «هنا» الى الجهات الأمنية تلتمس مساعدتها في استرجاع طفلتها الوحيدة. رحلة بحث عندما اتصلت بنا كانت دموعها قد جفت من البكاء من فرط ما ذرفت ومن تكرار رواية تغيب «ابنتها». وفي لقائها مع «الشروق» أكدت السيدة هنا أن بعض الأصدقاء شاهدوا «نورس» يوم تغيبها بالقرب من المؤسسة التربوية لكن لا أحد يعرف مكان تواجدها بعد ذلك. وأكدت أنها حاولت الاتصال بها مرات عديدة هاتفيا لكن دون جدوى كانت تبكي وتعبر عن خشيتها من حدوث أمر سيئ لطفلتها، قلقة حزينة وهي تؤكد أن طفلتها اتصلت بمنزل الجيران يوم 12 ديسمبر كما اتصلت بعدد من الأصدقاء يوم اختفائها حسب ما يبينه سجل المكالمات الذي تحصلت عليه من الشركة المزودة وحاولت الاتصال ببعضهم دون أن تعثر على أمل يحول أتراحها الى أفراح. من جهة ثانية تمكنا من الاتصال بأحد الأرقام وقد أكد لنا صاحبه بأن الطفلة المختفية نورس اتصلت فعلا عبر هاتفه غير أن والدته هي التي أجابت عن المكالمة عندما كان خارج المنزل (بعيدا عن الهاتف الجوال). ولعل هذا الخيط يمثل بارقة أمل في أن هذه الطفلة لم تتعرض الى مكروه تخشاه السيدة هنا. عظم خوفها من فقدان ابنتها جعل السيدة «هنا» تلقي بأسرار تنوء عن حملها الجبال.. وحملتها هي طيلة 17 عاما، ولعله السبب في تغيب الطفلة، فكيف ذلك؟ أسرار النسب روت السيدة «هنا» الحمري أن نورس المفقودة هي ابنتها بالتبني، حصلت عليها بعد يأسها من الانجاب من أحد المستشفيات سنة 1992، أي غير بعيد عن تاريخ ولادتها. وأكدت أن الطفلة علمت مؤخرا بنسبها مما جعل بعض التغيرات النفسية تطرأ على سلوكها. فأصبحت كثيرة الانطواء والعزلة كثيرة الاطراق متأزمة النفس وانقلبت حياتها رأسا على عقب. بعد أن علمت أن السيدة التي وهبتها من عطفها وحنانها ليست والدتها الحقيقية وان من كفلها وأنبتها نباتا حسنا غير الذي ولدها من صلبه. أي أرض تقل هذه الطفلة على حداثة سنها في عمق مراهقتها؟.. فلم تعد نورس تهنأ.. أصبحت كثيرة التغيب عن الدراسة فرسبت ثم أصبحت تتغيب عن المنزل تعدو خلف سراب تحسبه ماء، تبحث وتتساءل وتبكي حسب رواية بعض صديقاتها وعدد من المربين أين تدرس. وأكدت السيدة «هنا» أن نورس أكدت على مسامعها ومسامع زوجها في غير مرة رغبتها في البحث والتعرف الى والديها الحقيقيين. وأكدت عزمها الاتصال ببعض البرامج التلفزية لمساعدتها على ذلك دون أن تجد لذلك سبيلا. ولعل تغيب هذه الطفلة كانت تلك دوافعه النفسية. تواصل «هنا» سرد الأسرار وتقديم تفاصيل تظن أنها تساعدنا على فهم المسألة، كأنها تريد منا أن نلتمس لطفلتها العذر، تشيح «السفساري» عن رأسها وهي تتلمس مقعدا تلقي عليه حمل الجسد والنفس. وتحدثت عن يوم مشهود من حياتها يوم اتصلت بها ممرضة تعلمها ب«توفر» طفلين للتبني. وذكرت أنها هرعت يتدافعها فيض من مشاعر الأمومة والأحاسيس لملامسة ما حرمت منه لسنوات ومعانقة الأمل، اقترحوا عليها أن تتكفل بصيغة التبني بالطفلين أحدهما ذكر والأخرى أنثى.. لكنها وجدت نفسها أمام ضرورة الاختيار.. واختارت. قلق الوجود... «إني أحبها، إنها مهجتي وروحي.. لا أطيق فراقها لم ألدها لكنها ابنتي.. ثم تختفي العبارات بين سيل العبرات، قبل أن تضيف ان «ابنتها» أكدت لها عزمها على البحث عن والديها.. وهكذا خرجت تبحث». أين نورس الآن.. طفلة بريئة مثلها أين ذهبت وأين تقيم ومع من وهل هي بعافية هل أصابها مكروه.. تلك هي بعض الأسئلة المزدحمة في عاطفة الأمومة. وهل يعلم من أمر والدتها الحقيقية أحد. من هي والدة نورس.. من والدها.. من شقيقها.. هل هم على قيد الحياة؟ هل يكون هناك من يعرفهم ويساعدها في الوصول إليهم؟.. لعلها هي تلك الأسئلة الوجودية المقلقة التي أقضت مضجع نورس وأيقظت فيها قلق السؤال. بعض المعطيات تشير الى أن هذه الطفلة سافرت الى تونس العاصمة. وإن ما تصبو إليه السيدة«هنا» وزوجها الحبيب الرمضاني الآن هو أن تعود طفلتهما الى حضنهما وهما يعدانها بمساعدتها ويأملان في أن يتعرف إليها أحد وأن يتمكن أعوان الأمن من إيجادها في أقرب وقت مؤكدان كفاءتهم في ذلك. والدان يبحثان مثقلين.. وفتاة تبحث عمّن ولدها، رحلة سوف لن تكون سهلة أو نزهة.. انها قلق السؤال وحيرة الوجود. وفي الأخير هي حكايات صاغها البشر فهل ستتوقف رحلة ال«نورس» عند شاطئ وقرار مكين وتمسح عناء السفر بعد طور السنين.. ومن يكفكف حرّ الدموع.. فهل تلتقي الأحضان؟