96 ساعة من البحث قطعنا فيها 2000 كيلومتر بين القصرينوالجزائر شعرنا أحيانا باليأس أمام شح المعلومات لكننا توجنا رحلتنا بالعثور على العم ابراهيم حيا في الجزائر بعد أن انقطعت أخباره عن أهله في تونس منذ 20 سنة. انطلقت عملية البحث من مجرد فكرة اقترحها الشاب فتحي عمري من مدينة القصرين على جريدة الشروق لمرافقته الى الجزائر العاصمة للبحث عن عمه المسمى «ابراهيم عسال» والذي انقطعت أخباره منذ 20 سنة والذي لا يعرفه سوى من خلال صورة ظلت في جيبه لم تتردد الشروق وحددت موعد السفر برا الى العاصمة الجزائرية التي تبعد عن أول مدينة جزائرية على الحدود الغربيةالتونسية وهي تبسة 700 كم الموعد هو الأحد 20 ديسمبر 2009 الساعة الثانية بعد الزوال والمكان محطة النقل البري بالقصرين والوسيلة سيارة أجرة الى مدينة فريانة التي تبعد عن القصرين 30 كم وهناك غيرنا وسيلة النقل الى مدينة بوشبكة الحدودية التي تبعد عن القصرين قرابة 60 كم. الثالثة والنصف ظهرا كنا في مركز الديوانة حيث قمنا بالاجراءات الحدودية اللازمة للعبور وقصدنا أول مدينة جزائرية وهي تبسة التي تبعد عن القصرين حوالي 70 كم وكانت ساعة الوصول الخامسة والنصف مساء أي قبل موعد انطلاق الحافلة نحو العاصمة الجزائرية بساعة واحدة اقتطعنا تذكرتين وبقينا ننتظر قدوم الحافلة وفي الموعد المحدد انطلقت الحافلة تلتهم الطريق في اتجاه الجزائر العاصمة وكان لزاما ان نقضي ليلة كاملة في الطريق نظرا لبعد العاصمة الجزائرية عن تبسة (حوالي 700 كم) كانت الساعة تشير الى الثالثة والنصف من صباح الاثنين 21 ديسمبر عندما توقفت الحافلة في محطة الخروبة بالجزائر العاصمة التي توجد في المدخل الشرقي للمدينة على بعد حوالي 10 كم. ركبنا سيارة تاكسي وأشرنا على سائقها بايصالنا الى نزل في قلب المدينة جبنا كل شوارع العاصمة ولا نزل واحد شاغر وهناك بعض النزل رفضت فتح الباب أصلا. حيا أو ميتا يئسنا فطلبنا من السائق انزالنا بالقرب من مركز للأمن نقضي أمامه ليلتنا لنعاود رحلة البحث عن نزل ولكنه رفض ذلك بكل شهامة طالبا منا مرافقته الى منزله للنوم ساعتين حتى مطلع الفجر لم نتردد في ذلك وانطلقنا معه الى منطقة برج الكيفان حيث يقطن وهي من ضواحي العاصمة من الناحية الشرقية وكان الوقت آنذاك السادسة صباحا دقت الساعة الثامنة فكان علينا مغادرة المنزل في اتجاه وسط المدينة في رحلة البحث عن نزل كللت هذه المرة بالنجاح وأمكن لنا الحصول على غرفة فخمة بأحد نزل وسط المدينة اسمه شارع موريس أودان وتعود التسمية الى شخصية فرنسية من الحزب الشيوعي الفرنسي كان ساند الثورة الجزائرية وهو شارع يمتد على مسافة كبيرة جدا تفوق كيلومتيرن بنيت على جانبيه عمارات ذات طابع فرنسي من العهد الاستعماري تحولت طوابقها السفلى الى محلات تجارية. من الغرفة رقم 102 في هذا النزل كانت البداية كانت وسيلتنا صورة شمسية للعم ابراهيم قديمة تعود الى 1989 وبعض العناوين المتضاربة وأهمها عنوان مقر عمله سابقا في منطقة الحراش ولكن الاصرار والتحدي جعلانا نأخذ على عاتقنا مهمة البحث فلا عودة الا بالعثور عليه سواء كان حيا أو ميتا، الحراش تبعد حوالي 15 كلم ويقال انها منطقة خطيرة جدا والوقت أصبح متأخرا الخامسة مساء ولهذا أجلنا عملية البحث. لم يروه منذ سنة السادسة صباحا من يوم الاربعاء 23 ديسمبر انطلقنا مرة أخرى نحو منطقة الحراش وهناك قصدنا مديرية الأمن وكان الأعوان في غاية الأخلاق العالية خاصة لما علموا أننا من تونس، فتونس يحترمها كل الجزائريين وهذا لاحظناه في كل محل ندخله ولدى كل من يتعرف على لهجتنا لكن لا أحد نفعنا بأي معلومة. اتجهنا إلى بلدية المكان فلاقينا نفس الترحاب ولكننا لم نجد اسم العم إبراهيم في قائمة المسجلين. لجأنا إلى ورقة صغيرة كنا حملناها معنا من تونس تحمل عنوان مقر عمل العم إبراهيم قبل التقاعد انه «04 شارع محمود بوريبة بالحراش» سألنا عن الشارع إلى أن وصلنا إليه غير بعيد عن وسط المدينة لكن المحلات غير مرقمة. قمنا بعملية حسابية إلى أن وصلنا إلى محل تجاري هو الرابع في الشارع. دخلنا وسلمنا ثم سألنا التاجر إذا كان هذا المحل يحمل رقم 04 في الماضي إنه لا يعلم شيئا قدمنا له الصورة التي بحوزتنا فلم يتعرف على صاحبها. في الأثناء قفز رجل في المحل من مكانه وأبلغنا أنه يعرف هذا الوجه وذكر اسمه ولقبه هو نفسه الاسم الذي نفتش عنه بل وبادرنا بمعلومة أكدت أنه يعرفه فعلا فقد ذكر أن هذا السيد كان يشتغل حارسا في مصنع حكومي لبيع اللوح ومشتقاته ولكن المصنع تغيرت وظيفته الآن إنه يبيع مواد البناء. وذكر محدثنا أنه صاحب شاحنة نقل بضائع خاصة وكان يتعامل مع المصنع وطلب منا مرافقته إلى المصنع ليسأل زملاء العم إبراهيم في الماضي (مازالوا يعملون في نفس المصنع وان تغيرت مهامهم). خرجنا من المحل التجاري وقصدنا المصنع الذي لا يبعد سوى ثلاثة أمتار تقريبا، مصنع في حالة مزرية مجرد جدران مغطاة بالزنك وحوالي خمسة عمال فقط موجودون التفوا حولنا وحال رؤيتهم للصورة تعرفوا عليه جميعا دون استثناء وسردوا على مسامعنا ذكريات لهم مع هذا الرجل الطيب ولكنهم أكدوا أنهم لم يروه منذ سنة تقريبا وأقصى ما يعرفونه أنه يسكن في منطقة الرغاية ولا يعرفون العنوان. شكرناهم وركبنا سيارة أجرة إلى الرغاية التي تبعد حوالي 30 كلم على الحراش في اتجاه الشرق. تونس في القلب بعد حوالي النصف ساعة وصلنا رفض صاحب السيارة أخذ أجرته هدية منه إلى التونسيين على مساندتهم للفريق الوطني الجزائري لكرة القدم، اتفقنا أن تبدأ رحلتنا من أمام مركز البريد والسوق البلدي وسط المدينة. هناك أيضا يعرفونه جميعا ولكن لا يعرفون مكان إقامته بالضبط وهناك من أكد أنه رآه منذ أسبوع فقط أمام مركز البريد اطمأن قلبنا لأنه مازال على قيد الحياة في الأثناء صادفنا شيخا من المدينة أخذ على عاتقه التجوال معنا ومساعدتنا ولما يئسنا طلب منا الذهاب إلى منطقة الكروش حوالي 3 كلم والبحث هناك عن رجل يدعى جمعة رابح أصوله تونسية ركبنا الحافلة وتكفل هو بدفع الأجرة. وصلنا إلى كروش سألنا عن الرجل حتى وجدناه ولكنه لم يفدنا عندها شكرناه وقصدنا راجعين الى بلدية الرغاية. في مقر البلدية سألنا قسم الانتخابات عن الرجل لكن لا وجود له في قائمة الناخبين في الأثناء دخل عون بلدي آخر ولما رأى الصورة جزم بأنه يعرف صاحبها جيدا وأنه يقطن في حي الباي وتسمى أيضا بوسعيدان. قصدنا الحي المذكور على متن سيارة أجرة رفض صاحبها الحصول على أجرته أيضا، لم نجد في هذا الحي سوى منازل سكنية ومقهى صغير ومسجد فقصدناه والوقت ظهرا وجدنا بداخله ثلاثة رجال سألناهم إن كانوا يعرفون صاحب الصورة فتعرف عليه أحدهم وذكر أن العم ابراهيم كان يقطن في الحي ولكنه غاب عن الانظار منذ فترة وتطوع لإيصالنا الى المنزل الذي كان يقطنه علّنا نجد من يدلنا عن مكانه الجديد. في الطريق اعترض سبيلنا كهل أكد أنه يعرف العم ابراهيم فعلا وأعلمنا بأنه انتقل الى العيش في بلدية أولاد هداج من ولاية بومرداس غير البعيدة (تقريبا 3 كلمترات) وأكد أنه يعرف منزله لانه كان ينقل اليه بعض الامتعة باعتبار أنه صاحب شاحنة خاصة معدة لنقل البضائع. في الاثناء تدخل آخر ولاحظ أن العم ابراهيم يقطن في منطقة حوش برطلة التابعة لبلدية أولاد هداج (تسمى كذلك نسبة الى معمر فرنسي اسمه برطلة ومازال منزله قائما الى يومنا هذا). بكى كثيرا وضحك كثيرا تطوع مرافقنا بمصاحبتنا الى منطقة حوش برطلة على متن سيارة أجرة ولما أشرفنا على هذه القرية الصغيرة الواقعة على الطريق السيارة المؤدية الى العاصمة (وهي تابعة إداريا الى ولاية بومرداس) صادفنا شيخا سألناه عن صاحب الصورة (العم ابراهيم) فأشار بإصبعه الى نهج صغير وقال إنه في المنزل الخامس فكان علينا القيام بعملية العد طبعا لان النهج غير مرقم. أدركنا أننا وصلنا الى ضالتنا وكان الوقت آنذاك الثانية والنصف من بعد ظهر الاربعاء، ترجلنا من على السيارة وطرقنا باب المنزل الخامس خرج صاحبه بادرناه بالسلام ثم سألناه إن كان هذا منزل العم ابراهيم عسال فأجاب إنه المنزل الموالي كانت عملية العد خاطئة. طرقنا الباب الموالي فخرج شاب وأعلمنا أنه ابن ابراهيم. سألناه إن كان يعرف مرافقنا (فتحي) فأجاب بالنفي فأخبرناه بأنه ابن عمه من تونس فارتمى في أحضانه وانهال عليه قبلا. في الاثناء خرج العم ابراهيم وابنه الآخر (فريد) بعد أن سمعا هوية فتحي وعمت الفرحة أرجاء المنزل. قضينا بقية اليوم في منزل العم ابراهيم الذي فرح بنا كثيرا هو وأفراد عائلته في الاثناء اتصل فتحي بأهله في الڤصرين ليبلغهم خبر العثور على عمه وانهمرت عليه الاتصالات من كل حدب وصوب حتى أن الهاتف لم يتوقف عن الرنين طيلة ذلك اليوم وتحدث العم ابراهيم مع شقيقه العم يونس من الڤصرين وبقية العائلة طويلا وبكى كثيرا وضحك كثيرا وكان كل مرة يقطع الحديث ليشكر جريدة (الشروق التونسية) على هذا المجهود بل وسرد لنا العم ابراهيم ذكرياته مع العمل كحارس في الحراش وكيف نجا من الموت لما داهمه الارهاب هناك ليلا ثم كيف نجا من موت محقق في مجزرة ارتكبها الاستعمار الفرنسي ضد مجموعة من المجاهدين وكان هو واحدا منهم حتى أنه استظهر لنا بمقال من جريدة فرنسية تضمنت اسمه ضمن الموتى ذبحا في تلك المجزرة. انتهت رحلة البحث إذن مساء الاربعاء وعدنا في السابعة مساء الى النزل حيث حزمنا أمتعتنا استعدادا للرحيل صباح الخميس في اتجاه مدينة عنابةالجزائرية ومنها الى الحدود التونسية وعاد فتحي محمّلا بأرقام هواتف عائلة عمه وعناوينهم. تابع عملية البحث في الجزائر: محمد صلاح حقي (مراسلنا في القصرين)