مبادرات ومؤتمرات وندوات واجتماعات وقمم, تسميات كبرى تقرع آذاننا كلما تأكد للمسؤولين الصهاينة والفلسطينيين احتضار مسار التسوية وقرب فيضان روحها فيسعون جاهدين إلى «نفخ الروح» في جثة هامدة فارقت الحياة منذ أمد... فرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو يصر على عقد قمة للسلام مع الجانب الفلسطيني برعاية مصريّة من شأنها حسب تقديره أن تستأنف المفاوضات الثنائية المجمّدة منذ العدوان على قطاع غزّة, على الرغم من ضربه عرض الحائط كافة المطالب الدولية والفلسطينية بتجميد الاستيطان في الضفة الغربيةالمحتلة ورفضه المعلن لتنفيذ حق العودة ولأن تكون القدسالشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية... وأمام هذا الكم الهائل من «الفيتوات» الصهيونية يكون الاستفسار عن الأسباب الكامنة وراء النزعة الصهيونية نحو المؤتمرات والقمم مشروعا جدا لاسيّما وأنّ شكل الحكومة الصهيونية وتوجهات المعارضة داخل الكنيست لا تحمل في طياتها ميلا نحو تسوية القضية الفلسطينية, إضافة إلى أن الدور العربي المفترض أن يضغط على الكيان الصهيوني لحمله على الاستجابة لاستحقاقات التسوية, غائب أو مغيّب بالكامل... مما يعني أن الظرف الداخلي والخارجي موات لإسرائيل كي تمعن في نهجها التوسعي الإحتلالي دون إعارة مسار السلام أي اهتمام... عشرون سنة من التفاوض «الفلسطيني الإسرائيلي» طبعت بطابع اقتران كلّ مبادرة أو قمة ثنائية بمأساة عربيّة, لكأن القضية الفلسطينية أصبحت المتنفس الوحيد الذي يرى من خلاله المواطن العربي بصيصا من الأمل لاسترداد حقوقه القومية المسلوبة ,,فلم تكن صدفة ولادة محادثات «مدريد» 1991 و«أوسلو 1993» عقب الحرب على العراق... ولم يكن اعتباطا أن تعقب عملية «ثعلب الصحراء» 1998 مفاوضات «كامب ديفيد 2000»... ولم يكن جزافا ارتباط غزو العراق أفريل 2003 بإعلان «خارطة الطريق» في نفس السنة والشهر... وما كان أيضا من باب الصدفة اقتران «مؤتمر أنابوليس» 2007 بالحرب الصهيونية الشعواء على جنوب لبنان صيف 2006... وفق هذه القاعدة, لن يكون غريبا أن نرى سعيا صهيونيا لعقد قمّة «سلام» ودماء شهداء العدوان الصهيونيّ على غزّة لم تجفّ بعد... ولم تغادر بعد أذهان الأبرياء والمدنيين صور جرائم الحرب المقترفة على صعيد القطاع الطاهر... بالتوازي مع هذا يقف البيان الأوروبي الذي يشير بطرف خفيّ إلى الحقوق الفلسطينية في القدسالشرقية وفي أراضي 1967 سببا وجيها للتوتّر داخل الأوساط الصهيونيّة, ليس لأن الإتحاد الأوروبي اعترف بحق الفلسطينيين بموطإ قدم في القدس, ولكن لأنّه انطلق من موقف مؤيّد للقضيّة الفلسطينيّة قبل أن يقع تحويره في حين أن العادة الدارجة أوروبيا أن تكون البيانات منبنية على التأييد الأعمى للمصالح الإسرائيلية... تغيير كهذا في قارة اعتبرت نفسها عقب الحرب العالمية الثانية مدينة بالكامل لإسرائيل والمساند الأوّل لطموحات الشعب اليهودي... كان بمثابة ناقوس خطر دوّى بعنف في كامل الكيان الصهيوني, محذّرا بإمكانية خسارة تل أبيب لمؤيديها في القارة العجوز..خاصّة وأنه جاء عقب إبداء بعض الدول الأوروبيّة تأييدها الكامل لتقرير «رتشارد غولدستون» الذي يتّهم الصهاينة بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة... الأمر الذي دفع بإسرائيل الى بدء حملة علاقات عامة تسعى بالأساس إلى «استرداد» صورة الضحية داخل الأوساط الديبلوماسية الأوروبية عبر الإعلان عن تعليق جزئي للاستيطان في الضفة الغربية يستثني القدسالشرقية والتعبير عن عزمها على عقد قمة سلام بتأييد أمريكي, وليس تحت مظلتّه, والأكثر من ذلك أنها برعاية عربية ممثّلة في القاهرة... غير أن ما يسترعي الانتباه في هذه الخطوة هو سياقها السياسيّ الداخلي, ذلك أن نتنياهو وبعد أن قسّم المعارضة الصهيونية على نفسها وأدخلها في حرب سياسية ضيقة, وعقب قيام جنوده باغتيال 6 مقاومين في غزّة والضفة الغربيةالمحتلة, أراد أن يؤكد عبر هذه الخطوة للسلطة الفلسطينية خاصّة, وللأطراف المعنية بمسار التسوية عامة, أنه «رجل الحرب والسلام والإجماع» داخل إسرائيل, على المدى القصير والبعيد وبالتالي فإن على السلطة الفلسطينية أن تقبل بالعرض المقدّم إسرائيليا وأن ترضخ للشروط الصهيونية للسلام الموعود , لأن مقتضيات التسوية ستكون ذاتها غدا... إن لم تتغيّر نحو الأسوأ... وباتباع القاعدة السياسية الصهيونية القائلة إن «اليمين هو القادر وحده على صنع السلام الدائم واليسار وحده المؤهل لخوض الحروب الطويلة»... فإن نتنياهو يحاول جاهدا أن يصوّر ذاته على أنّه «اليمين في السلام واليسار في الحرب» وأن «الليكود» العاكس لرغبات وتطلعات أفراد الكيان الصهيوني استحال «حزب الدولة» وصاحب النفوذ النيابي الكاسح... في الطرف المقابل, يقف ساسة رام الله مترددين بين خيارات أحلاها مر... فالقبول بالقمة سيحسب على أنه تنازل فلسطيني مهين وتخل عن شرط من شروط التفاوض (مثل اللقاء الثلاثي على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة) كما أن التمسك بمطلب تجميد الاستيطان فقد الداعم الأمريكي الأوّل له, وأصبح ينظر إليه غربيا على أنه تمترس وراء استحقاقات ستدرس خلال المفاوضات الثنائية... في حين أن الاكتفاء ببيانات الشجب والتنديد سيعتبر داخليا تهاونا في الدفاع عن الحقوق الوطنية العليا... وبين هذه الخيارات تقف الوحدة والقفز على الأوجاع الفلسطينية حلا ناجعا ومصيرا محتوما... يجنبان الفلسطينيين السقوط في دوامة القمم والتهاوي في مسلسل التنازل المذل... فالشعب الذي يملك حقّ تقرير المصير غني عن المبادرات الملغومة وخرائط الطرق التائهة... التي وإن أثبتنا لها إيجابية يتيمة فهي تأكيدها على أوهام السلام المزعوم وتشديدها على أن «الشجعان» موجودون فقط في ساحات النضال.