لم ينل المسرح حظوته من جهة توفر المصادر والمراجع المؤرخة لتاريخه ورجالاته بحسب بعض أهل الميدان. ورغم أننا نتحدث ونسمع (جعجعة) عن «مائوية» للمسرح التونسي الذي وثقت له عديد المراجع والتراجم قدمت لقرن من المسرح بتونس وأتت على ذكر بعض رجالاته من العميد علي بن عياد الى السنوسي وغيرهم، فإنه من النادر جدا العثور على وثيقة مرجعية يعتمد عليها أو يوثق في صحتها تثبت أن «عميد» المسرح مر من هناك أي من مدينة القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية (2009). ويبدو أن ذلك الجزم كان بمثابة الرجم بالغيب لتأكيد الحاجة الى كتابة التاريخ لاثبات «نسبه» صيرورته وهو لذلك يحتاج الى من يقتفي أثره ويعقل مراحله ويدون اسفاره. ولما كان التأكيد على أن «شعبا لا ذاكرة له لا يملك حاضرا ولا مستقبلا»، ولما كان المسرح أحد أركان ذاكرة الشعوب، فإن التطوع لحفظ ذكراه لا يصدر إلا من مرجعية تهوى الفعل وتعشق القول في المسرح أو «المرسح» كما سمّي قديما. وكتاب «الحركة المسرحية بالقيروان، عندما يتكلم التاريخ»... للمسرحي محمود بوقميزة رئيس مهرجان المونولوج ورئيس جمعية قدماء المسرح بالقيروان (1999 2006). يعدّ وفق المقاييس العلمية، أول وثيقة مرجعية تؤرخ للمسرح القيرواني. ترمي الى التعريف برجالات المسرح وإرثهم والتطورات التي شهدها المسرح على مر 80 عاما في ربوع هذه المدينة. وهذا التاريخ حافل وثري جمع بين الصعوبات والنضال ومع ذلك يجهله جل المسرحيين المعاصرين وبل المسؤولين عن الثقافة بالجهة وربما بالوزارة. ولادة المسرح... في القيروان الكتاب جزّأه مؤلفه الى ثلاث مراحل منهجية في عمر المسرح بالجهة. المرحلة الأولى بعنوان «المسرح في عهد الحماية وهي الفترة التأسيسية لأول الجمعيات المسرحية تناول فيها المؤلف دور جمعية الشباب الرشيقي كأول جمعية عمل مسرحي بالقيروان وتقديم ظروف وسياق عملها وأهدافها. كما تطرق خلالها الى خصوصية العمل المسرحي في عهد الحماية مقدما الصعوبات والعراقيل المادية والأدبية مبرزا دور المسرح في النضال التحرري مقدما عدة معطيات مرفقة بصور ومدعمة بوثائق نادرة. المرحلة الثانية للأثر، تناولت حياة المسرح بعد الاستقلال. انطلاقا من المسرح المدرسي الى نشاط الجمعيات والفرقة المسرحية المتفرغة للتمثيل والفرقة المسرحية القارة بالقيروان كما بينت دور الهواية في ازدهار الحركة المسرحية. أما «المرحلة الثالثة» فجاءت بعنوان «المسرح في عهد التغيير» التي شهدت توالد الجمعيات المسرحية وجمعيات الإنتاج والشركات المسرحية... ولعل من بين ما يلفت الانتباه هو شدة وفاء المؤلف للتاريخ واحترامه للأشخاص والرموز وتسلسلها الزمني وعرفانه بفضلها. فلم يسقط حرفا من الأعمال او من حق الأشخاص كما يجب أن يكون. ذكر المسرحيين البارزين بأسمائهم وأدوارهم والمؤلفين وأعمالهم. فغاص بذهنه وجوارحه في التاريخ عبر أزمنته وظروفه وعاش وشارك ليقدم لنا على طبق مريح «زبدة عرقه». عاصمة المسرح ؟ وفي لقائه مع الشروق، أكد المؤلف محمود بوقميزة ان هذا الأثر هو مبادرة خاصة منه بصفته سليل عائلة المسرح، ورث تقاليد ومبادئ هذا الفن عن عمه المناضل الهذيلي بوقميزة ورائد المسرح في القيروان (مؤسس جمعية الشباب الرشيقي سنة 1932) ومساهمة متواضعة منه (كبيرة بنظر كثيرين) بمناسبة الاحتفال بمائوية المسرح التونسي و80 سنة من المسرح القيرواني وبمناسبة الاحتفاء بالقيروان عاصمة للثقافة الإسلامية التي تعيش فترة انتعاشة تذكر بأوج ازدهارها الأول. أما عن اهتمام المؤلف بالمسرح القيرواني ودوافع الكتابة، فبين بوقميزة أن ما دفعه لوضع هذه الوثيقة المرجعية هي أن الكتب التي أرخت للمسرح أسقطت من أوراقها دور ومساهمة رجالات المسرح من أبناء الأغالبة وإسقاطهم جهودهم وتاريخا عريقا حافلا بالنضال والأعمال الضخمة أسسوه وأن تلك الدراسات اهتمت بمسرح الحاضرة (العاصمة) وبعض محيطها. كما يهدف هذا العمل الى تعريف الشبان والجيل الجديد بتاريخ المسرح ونضال الأجيال السابقة وعطائها فقرر نيابة عن زملائه المسرحيين بجمعية قدماء المسرح تقديم عمل سابق قد يكون انشغال كبار المسرحيين من معاصريه بالعروض أو الدعم (...) ما منعهم وضع مثل ما وضع هذا المسرحي وعاشق المونولوج الذي خصص له مهرجانا أسسه وربّاه وسقاه من عرقه وجهده. تاريخ مقبور وصعوبات أما الدافع الأهم فهو أن تقلب الوجوه بحثا عن وثيقة تهتم بمسرح عاصمة الأغالبة أحزنه فوضع على عاتقه هذه المهمة فكان عمله نادرا وفريدا وثريا ومرجعيا وتوثيقيا لأنه أول كتاب يصدر في القيروان او في تونس عن المسرح ونشأته وتاريخه ورجالاته بعاصمة الثقافة الإسلامية. كما أن مسرح القيروان بحسب المؤلف، كان مرجعا ومع ذلك لم يذكر رغم عراقة الاعمال وثراء النشاط المسرحي الذي يعد مدرسة وطنية ويكفي ذكر أحمد خير الدين وخليفة السطنبولي والشاذلي عطا الله...مثالا. ويعد امتدادا للمسرح الحديث الذي أعطاه العميد علي بن عياد رؤية أخرى طورته. ولأن لكل إبداع مأساة تمحصه فإن هذا العمل لم يكن وليد صدفة أو هبة قدرية. صعوبات مادية ومرجعية اعترضت المؤلف الذي تسلح بالشغف والعشق. فقد أكد أنه اصطدم بشح الوثائق والمراجع بالمكتبات العمومية وبأرشيف مندوبية الثقافة التي كان تأسيسها متأخرا عن تاريخ المسرح أصلا. فكان عليه أن ينقب ويمحص. وقد ساعده إرث عمه الهذيلي بوقميزة على اقتحام ما رام إليه مستأنسا بوثائق تاريخية نادرة من صحف وصور نادرة ومعلقات لمسرحيات أنتجت قبل 70 عاما فاخرج إلينا كتابا نقرؤه ونستفيد منه ونرجع إليه بل ونتعلم منه ونحتفظ به مرجعا. ثاني الصعوبات هو أن «الفنان» بوقميزة طبعه على نفقاته الخاصة المتواضعة وهو ما اضطره الى إصدار 500 نسخة منه فقط التهمت مرتبه الثقافي غير آسف وهو الذي وهب حياته للمسرح. بمولوده (الأول) بدا المسرحي بوقميزة سعيدا بكتابه وأخذه بيمينه مؤكدا أنه الانجاز الأهم في حياته العملية (55 عاما) بعد تأسيس حدث مهرجان المونولوج فكان يقدم لنا كتابه بشغف وسعادة كبكر البنات تحتضن مولودها... فهذا كتاب يتحدث عن المسرح في الماضي كان ل«الشروق» سبق الحصول عليه من مؤلفه قبل نشره لثقته في ما تكتب ويقينه بأنها ستحتفل بما صنعت يداه. ذاك الماضي وجد أخيرا من يلملمه وذاك قرن في رحلة الزمن فأين مسرح الحاضر؟... ربما يتعلم هذا الجيل الدروس... إن قرأ.