وزير الشؤون الدينية: الوزارة تسعى إلى عدم الترفيع في تسعيرة الحج    عاجل: المجلس البنكي والمالي يدعو إلى تغليب المصلحة العامة والتضامن ويرفض دعوة الإضراب    حالة الطقس هذه الليلة    توزر تحظى باهتمام كبير على مستوى الدعاية والترويج في ظلّ تحسن مؤشر الاستثمار السياحي (مدير عام الديوان الوطني للسياحة)    سرقة اللوفر.. القبض على 5 أشخاص آخرين والكنز لا يزال مفقودا    حماس تعلن..#خبر_عاجل    هذه نتائج الرابطة المحترفة الأولى – الجولة 11 : شوف الترتيب    خالد بن يحيي مدربا جديدا للاتحاد الليبي    وزير الصحة يكشف آخر مستجدات مشروع مدينة الأغالبة الطبية..#خبر_عاجل    العاصمة: هذه القاعة السينمائية تُغلق أبوابها نهائيا    عاجل من السعودية: تعديل جديد في نظام تأشيرات العمرة    عاجل: منخفض جوي سريع يلمّس الجزائر وتونس...هذا الموعد    طقس الويكاند: شنوّة يستنّانا التوانسة ؟    إضراب بيومين في قطاع البنوك    16 ديسمبر: جلسة عامة للمصادقة على قانون انتداب الخريجين ممن طال بطالتهم    حادثة مأساوية: مقتل رضيعة على يد طفلة داخل حضانة!!    موعد انطلاق العمل بجهاز تسجيل الاستهلاك بالمطاعم والمقاهي..#خبر_عاجل    آبل تقاضي Oppo الصينية وتتهمها بالتجسس    عاجل/ الكشف عن السعر المبدئي للتر الواحد من زيت الزيتون    بودربالة يطلع على الوضعية المهنية لعدد من المتعاقدين بمراكز الفنون الدرامية والركحية    عاجل: اكتشاف سمكة ''ذات الراية'' في ليبيا يثير القلق ... هل تصل تونس بعد؟    استخبارات غربية تتحدث عن إعادة بناء إيران قدراتها الصاروخية بدعم صيني    مؤسسة الأرشيف الوطني ستعمل على حفظ الوثائق السمعية البصرية من الإتلاف وبناء استراتيجية لرقمنة المحامل القديمة (مدير عام الارشيف الوطني)    "جائحة الوحدة": لماذا نشعر بالعزلة في عالمٍ فائق التواصل؟    اليوم الجهوي حول الرضاعة الطبيعية يوم 4 نوفمبر المقبل بالمركز الثقافي والرياضي للشباب ببن عروس    الدورة الرابعة للبطولة الوطنية للمطالعة: حين تصبح المطالعة بطولة.. وتتحول المعرفة إلى فوز    رئيس الجامعة التونسية للريشة الطائرة ل"وات": "بلوغ المستوى العالمي والأولمبي يبدأ بتطوير البنية التحتية وتكثيف المشاركات الدولية"    غرفة التجارة والصناعة لتونس تنظم يوم 5 نوفمبر ندوة حول "حماية حقوق الملكية الفكرية..رافد لتطوير الصادرات    10 مشروبات ليلية تساعد على إنقاص الوزن..تعرف عليها..!    تنبيه عاجل : علامات تخليك تعرف إذا كان تليفونك مخترق وكيفاش تحمي روحك    عاجل/ الاحتلال الصهيوني يغلق مدينة القدس..    زلزال بقوة خمس درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    عاجل: المرور على جسر لاكانيا يتحوّل جزئيًا.. هاو كيفاش تتجنب ال embouteillage    ولاية تونس: جلسة عمل حول الاستعدادات لتنظيم المؤتمر العالمي للغرفة الفتية الدولية    قبلي: توقف عدد من فلاحي منطقة جمنة عن جني تمورهم بسبب تخفيض اسعار قبول دقلة النور من طرف عدد من المجمعين    الدولي التونسي سيباستيان تونيكتي يفتتح رصيده التهديفي مع سيلتيك في البطولة الاسكتلندية    داومان جوهرة أرسنال يصبح أصغر لاعب سنا يشارك أساسيا في تاريخ النادي    عاجل : مصوران يفقدان حياتهما أثناء تصوير إعلان في بورسعيد    قفصة: الدورة 35 للمهرجان الإقليمي للمسرح بدور الثقافة ودور الشباب والمؤسسات الجامعية يوم 31 اكتوبر الجاري    الملتقى الدولي حول 'الانسانية المعززة.. الفنون والتفرد.. تصورجديد لاخلاقيات الغد وجماليته ' من 12 الى 15 نوفمبر 2025 بجامعة قابس    دورة الهاشمي رزق الله الدولية: المنتخب الوطني يفوز على نظيره الايراني    الرابطة الأولى: الترجي الرياضي يستضيف النادي البنزرتي    النادي الإفريقي: فراس شواط يَغيب للإصابة والعُقوبة    تمضغ ''الشوينقوم''على معدة فارغة ...حاجة خطيرة تستنى فيك    أكثر أمراض القطط شيوعًا    غلق كل حساب بنكي يتجاوز 3 اشهر دون معاملات...شكونهم التوانسة المعنيين ؟    العوينة: مقتل شاب طعناً بسكين والنيابة العمومية تأذن بفتح بحث تحقيقي    عاجل/ سقط من الحافلة: أول تصريح لوالد طفل ال13 سنة بعد وفاته..    علاش نحسوا بالبرد أكثر كي نكبروا في العمر؟    السودان بين صمت العالم ونزيف الحرب.. طارق الكحلاوي يشرح جذور المأساة وتعقيدات الصراع    صدمة في لبنان: وفاة مفاجئة لنجم ''ذا فويس'' في ظروف غامضة    رفض مطالب الإفراج عن عبد الكريم الهاروني ومحمد فريخة وتأجيل محاكمتهما إلى نوفمبر المقبل    أليستْ اللّغةُ أمَّ الثقَافة؟    رَجّةُ مُتَمرّد    تنشط بين هذه الولايات: تفكيك شبكة لتهريب المخدرات تستغلّ سيارات إسعاف أجنبية    طقس اليوم: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    بالفيديو : صوت ملائكي للطفل محمد عامر يؤذن ويقرأ الفاتحة ويأسر قلوب التونسيين...من هو؟    زحل المهيب: أمسية فلكية لا تفوت بتونس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنديل الثاني: المفكر السوري مطاع صفدي ل «الشروق»: الغزو الأمريكي لم يسقط النظام الحاكم، بل أسقط استقلال العراق كدولة
نشر في الشروق يوم 02 - 03 - 2010

في الستينات أثارت رواية «جيل القدر» ورواية ثائر محترف «ضجة كبيرة. ربما كانت في تلك السنوات أكثر الكتب قراءة من طرف شباب سوريا والوطن العربي، قرأت رواية «جيل القدر» مثل بقية الكتب من مكتبة أخي تميم، لكنني لم أفهم كثيراً ولا قليلاً فلسفة الكتاب. ما زالت النسخة عندي اليوم بحجمها الضخم وأوراقها المصفرة وصورة الغلاف المعبرة والجريئة بالنسبة لتلك السنوات، أعدت قراءة الرواية ثانية واكتشفت أنها ما زالت ثورية وأبعد من الحداثة، أحب كتابات مطاع صفدي الروائية، فهو من أهم الروائيين العرب لكن اهتماماته تتجه أكثر للفلسفة. وفي رأي النقاد يعتبر من أهم من كتب في الفلسفة في العصر الحديث، ولد في دمشق وزاول مهنة التدريس، عمل صحافياً ويقيم منذ سنوات طويلة في باريس.
تعتبر دراسات وكتب مطاع صفدي الفلسفية مرجعاً في الفلسفة الحديثة. ترجم كتب ونصوص أهم فلاسفة الغرب ووضعها في متناول القارئ العربي. قدم الكثير من الأفكار والبحوث من خلال عمله كمدير مؤسس لمركز الانماء العربي، ومجلة الفكر العربي المعاصر التي فتحت صفحاتها لنخبة ثقافية من كل بلدان العالم .
هل ما زال للوجدان العربي ذاكرة مشتركة؟
لم يعد للذاكرة العربية ثوابت تاريخية. والعصر الانحطاطي السائد هو المسؤول الأول . فمن سمات الانحطاط هو امعان الجسد المريض المُصاب به، في التحلل العضوي أو البنيوي. وفي علم الاجتماع السياسي يبرز منهج البحث القطاعي الذي يركز الجهدَ في فهم ظاهرة معينة يجري عزلها افتراضياً عن بقية النسيج العام الذي يحيط بها ويتجاوزها. لكنه عزل مؤقت لا يلبث أن يعيد ادراج النتائج المحصلة تحت مظلة الرؤية الشاملة للحالة الاجتماعية العامة، بما يزودها بمعلومات تفصيلية دقيقة. وهذه بدورها قد تدخل تعديلات غير متوقعة أحياناً على النظرة الكلية، وتغيّر من معايير الأحكام التي ستطلق عليها.
همومنا أصبحت واحدة وهي اليوم علمية حداثية أكثر منها ايديولوجية أو ثقافية؟
ليبرالية العولمة في المجتمع المتخلف لا تنتج أفراداً أحراراً، يبنون مواطنية مدنية متكاملة بين الواحد المستقل والكل المتضامن. انها على العكس: تشكل أخطر فعالية اجهاض لمثل هذه المسيرة المأمولة ما بين تفتح الشخصية الحرة للفرد واغتناء الشخصية الانسانية العامة لجماعة الأفراد الأحرار. فالعولمي الليبرالي يطرح ثقافة الاستسلام لمرآوية الاعلام الآتي كبديل وهمي عن الواقع الحقيقي المأزوم للجماعة والفرد معاً. حريته هي في الاختيار بين معروضات الأفكار المقولبة سلفاً، والمنتمية كلياً إلى نوع الوهم الواحد، ومفرداته الطيارة في أقرب فضاء ملامس للعين والأذن، دون القلب والوجدان.
ذكرت في كتابات أخيرة ان فكرة الوحدة العربية ما زالت قائمة؟
بمناسبة حلول الذاكرة الخمسينية لأول وحدة سياسية في تاريخ النهضة العربية المعاصرة، تبرز النزعة الانكارية في أوج غرابتها المنطقية وغربتها عن انفعال الانسان العربي بأهم محركات هذه النهضة وثوابتها التاريخية. فالوحدة العربية قائمة رغم كل آفات التجزئة والتفتيت التي تتناهشها من كل حدب وصوب. بل ان هذه الوحدة ان لم تكن تتجلى في الدولة الكبرى المنشودة، فان العرب موحدون في كل مآسيهم المتشابهة، في كل الأعطال البنيوية الضاربة في مختلف مجتمعاتهم. هم موحدون في الفقر والعوز والقمع السلطاني والغزو الأجنبي. ولكنهم موحدون دائماً في ثقافتهم ولغتهم وتاريخهم الماضي والحالي والآتي. والانكاريون ينكرون على هذه الأمة وحدة آلامها وآمالها. انهم متوافقون مع أعداء هذه الأمة على حرمانها من الشكل السياسي الموحد، وفي الرهان على الابقاء على هذا الحرمان كأهم علة لحرمان الأمة من كامل شروطها النهضوية الأخرى في القوة مع الكرامة والحضارة مع الحرية.
لا يمكن أن تنجح وحدة اذا لم تكن هناك أهداف مشتركة ومصالح مشتركة ووعي مشترك؟
قد تكون الأهداف الكلية التي تسعى اليها المجتمعات الواعية بصورة عضوية أولاً ثم بطرق منهجية افرادوية، صعبة التحقيق. لكن هذه الصعوبة لا تبرر انكار الهدف ومشروعيته العقلية على الأقل. فالليبرالي العولمي الذي يتخلى عن ثقافة العدالة والحرية بحجة التعامل مع معطيات الواقع السياسي المباشر، لا يلغي امكانية التغيير فحسب، بل يكرس أعطال هذا الواقع المريض جاعلاً منه نموذجه الأخير. وعلى هذا الأساس يقف الانكاري على طرف نقيض تماماً من المعارض. يتحول الى حليف موضوعي لكل المستفيدين من هذه الأعطال والحارسين لمؤسساتها المنخورة. فالليبراليون الجدد في المجتمعات المتخلفة يُراد لهم أن يحلّوا مكان المعارضين الحقيقيين. وبالتالي فهم الشركاء المحتملون لأرباب السلطة ان لم يكونوا أمسوا من أصحاب هذه السلطة ورموزها الفاعلة اليوم أو غداً..
ها هو الغرب ينجح في وحدته وتكتلاته الاقتصادية التي ستزيده توازنا اقتصاديا ونحن ما زلنا نتحدث عن الوحدة بمفهومنا المتشكك؟
في عصر المجاميع الأممية الكبرى، العرب من دون كل العالم، هم المتملكون من كامل مداميك الوحدة العضوية، لكنهم هم الممنوعون الأوائل من دون البشرية كلها، في أن يكونوا ذاتَهم ووطَنهم ومستقبلَهم. ولقد عرف العرب كل أسياد الاستبداد العالمي المنكِرين عليهم أبسط حقوقهم في الاستقلال والوحدة. وها هم اليوم يواجهون الصنف الأحدث من الانكاريين التابعين من بين أهلهم، بل من بين طلائع الأهل. انهم من طائفة الليبراليين العولميين الذين آلوا على أنفسهم أن يكونوا المبشّرين بثقافة الخطإ تحت اسم الحقيقة، بالتعجيز الارادوي تكريساً للعجز المزعوم. وللفردانية المريضة كبديل عن المجتمعية المبدعة.
أما الوحدويون العرب فهم ليسوا الأبرياء تماماً من أخطاء الانفصاليين وأخطارهم، ولكنهم على الأقل يعترفون بطوائف الانكاريين على أنهم الأحدث في قافلة الانفصاليين . وربما الأدهى والأصعب، لأنهم من أهل الهيكل ومن مدمريه كذلك.
تقولون ان الفكر الغربي لم يبق عقلياً فقط، واغريقياً، بل تحول تكنولوجياً، والتكنولوجيا أصبحت ميتافيزيقا الحداثة، لكن ماذا عن ماهية الفكر القومي العربي اليوم، وهل يمكن تحديد هذا الفكر؟
ليس هناك بالمعنى الحقيقي للكلمة فكر قومي، وانما كانت هناك موجات من الشعارات السياسية التي طرحت حسب تحديات الصراع الذي فرض على الجيل العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة .هذه الضرورة التي يشعر بها المثقفون من أجل ما يسمى بالفكر القومي المتميز، هي في الحقيقة ضرورة خلق فكر حقيقي يستطيع أن يلم بمشكلات الانسان العربي على ضوء أحدث النظريات التي أنتجها عصر الفكر الانساني بصورة عامة الموصوف بالحداثة، وما بعد الحداثة، فبقدر ما يمكن أن يعبر المثقف العربي عن هذه العلاقة بين خصوصيات الظروف القائمة وآفاق الفكر الانساني الشامل، بقدر ما يمكن القول أن الجيل العربي اجتاز حقاً مرحلة الشعارات الى مرحلة انتاج الافكار.
ماذا سيكون عليه مستقبل العرب بعد الاحتلال الأمريكي للعراق؟
الغزو الأمريكي لم يسقط النظام الحاكم، بل أسقط استقلال العراق كدولة، وشرع في تفكيكه ككيان سياسي تاريخي راسخ الجذور والفروع،وكمجتمع انساني عريق في صناعة الحضارة والمدنية لذاته، وللبشرية. لقد وصف الاستعمار الأمريكي نفسه بأنه حامل وناشر للفوضى البناءة. لكنه أثبت أنه حيثما حل يحل الخراب والموت . سنوات مضت على تمادي الوحشية الأمريكية . كانت بمثابة اعادة تكثيف القرون الوسطى بكل فظائعها الدموية والسحرية والخرافية . .
لم تبقَ ثمة وسيلة أو نظرية في علم (الأنثروبولوجيا) التخريبية، المتفوقة في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، الا واتبعتها أجهزة الاحتلال في تمزيق النسيج الاجتماعي والبشري للشعب العراقي. حملت هذه الأهوال كل الأسماء المحلية: من شيعية ووهابية وكردية وسواها، الا أنها كان لها الاسم الأمريكي الواحد والجامع والبقية هي مفرداته وفروعه المطبقة على الحوامل الموضعية للطوائف والمذاهب والعروق والأحزاب. كل مجزرة ارتكبها هذا الاسم الفرعي أو ذاك، انما هي نسخة جديدة عن الأصل الأمريكي. ذلك هو المدلول الوحيد للقانون الدولي نفسه الذي يجعل المحتل العسكري مسؤولاً عن أمن البلد الخاضع له. فالتوصيف الثقافي أو الرصد العلمي لوقائع الاحتلال ومفاعيله على الأرض، وان لم تسجله ذاكرة توثيقية معترف بها على مستوى ما يُدعى بالمجتمع الدولي، لكنه يظل من مسؤولية هذا المجتمع مهما تعامت مؤسساته عن التقاط الفظائع وقت وقوعها. فالتعامي عن الجريمة مشاركةٌ فعلية لمرتكبيها. وتلك هي حقيقة تمتّ الى ثقافة الحق العام، ولا يمكن انكارها أو التنكر لتفاصيلها إلى الأبد.
أنتم من الذين تابعتم ظهور البنيوية وأفولها، وأنتم اليوم مع تفكيكها، هل هذا مشروع قادر على تحليل الواقع؟
الثقافة لا يمكن سجنها ضمن تصنيفات مذهبية، فالبنيوية مثلاً في عصر يحدها، كان كبار فلاسفتها يتبرؤون من تسميتها، والمثال فوكو الذي رفض أن يصنف تحت عنوانها. ربما كان المصطلح هو من صنع صف ثان أو ثالث من الباحثين والشارحين أكثر من كونه عائداً الى الفلاسفة المؤسسين، لذلك نلحظ اليوم أن تيارات الثقافة تحاذر ما أمكنها الدخول تحت أي من التصنيفات الاختزالية، فهي تترك نفسها حرة الاختيار، من أجل أن تدل على أسماء أخرى للحرية مجهولة، وغير معروفة بعد.
هل التطرف الديني اليوم هو نتيجة العولمة، أم هو جزء من العولمة؟
الاصولية كانت قبل العولمة وسوف تستمر بعدها، لأنها تعبر عن نزعة أساسية لدى المجتمعات لجهة التمسك بالعقائد الثابتة الموروثة، لكن السؤال هو في طريقة تعامل الحداثة مع الاصولية المتجددة اليوم، وهي ليست من أعمال العربي وحده، لكن في المجالات الاوروبية، وحتى الأمريكية.
أجيال المثقفين العرب منذ الحرب العالمية الأولى انطلقوا من بضع أفكار أولية، هي بداهات لا تحتاج الى البرهان بقدر ما هي أساس البرهنة لكل الأفكار الأخرى التي ستُبنى عليها. لقد تحدثوا عن العرب، ولم يتداولوا ألفاظاً من مثل الشعوب والدول.. وحتى الأقطار؟
كان العربي نسراً محلقاً مخترقاً التخوم والحواجز، لم يكن خيالياً واهماً. كان طافحاً ومجنَّحاً بأصول الحقائق كلها التي تحكم وعيه، ووجدانه قبل وعيه كذلك كان وجود العرب في كل مكان من وطنهم هو الدليل الأكبر على انتفاء كل واقع آخر مداهم لكيانهم أو مفروض عليهم بأية قوة أجنبية، حتى ولو لم تقم ثورات وطنية أو انقلابات عسكرية، أو غزوات ابادية كاسحة. كانت حقيقة العرب تسبق الفكر والسياسة والأدلجات. العروبة مشتقة من الجذر الوجودي للعرب. لن تتحول العروبة الى أيديولوجيا أبداً. يكفيها أنها حاملة لحروف اللفظ الأكبر (العرب) الذي هو ينبوع أعظم لغات الانسان الناطقة بمفردات عمرانه الذاتي، قبل أن ترصّع أبنية حضاراته المتتابعة، الباقية منها و المنهارة. ما يأتي قبل كل تعريف للهوية هو انتماء الانسان لفطرته بدئياً. والعروبة عند طلائعها، هي حصيلة تثقيف هذا الانتماء لفطرة انسانيةِ الجماعةِ من حول أفرادها. فقد تلحقُ بتعريف الهوية تغيرات مختلفة، ولا تخلو من تباينات حسب ظروف التطور السياسي الاجتماعي المحدق بتاريخانية النهضة. لكن بالمقابل يظل استيحاء القطرة معياراً تصحيحياً لكل ما يطرأ على التعريف النظامي للهوية من متغيرات، وحتى من تحريفات. .
في خطابات عبد الناصر خلال الفترة الفجرية من عودة العرب الى ذاتهم والى المسرح العالمي في آنٍ معاً، كانت عبارة القومية العربية تتردد خلال صيحاته الجماهيرية، كمرجعية لازمة لنداءاته الى التحرير. كانت هي العبارة الثورية الكافية لاعادة لملمة شظايا الأمة المتناثرة في جنبات جغرافيتها الاجتماعية، والصحراوية المترامية الأصقاع والأطراف. تلك هي المرة الأولى والحالة الفريدة التي لم يعشها العرب منذ خروج الفتوحات الاسلامية من جزيرتهم القاحلة، التي تهبُّ فيها الأمة جميعها، كجماهير وليس كطلائع أو نخب فحسب. وقد يقال أن عبد الناصر استعمل الثورة الصوتية بدئياً لكنها كانت كصرخة ايقاظ للنائمين. فصار نداء ‹القومية العربية› هو الاسم الجامع الذي يُشعر كلَّ فرد أنه هو المقصود وهو المنادى عليه باسمه الأصلي الشخصي، وعليه أن يلبيه.
هل مشروعكم الفكري الفلسفي الذي انطلق في الخمسينات متواصلاً ومرتبطاً مع ما قدمته في السنوات الأخيرة؟
ان تفكيري، منذ البداية، ولد وهو في حمأة الحدث . فهو فكر يحاول، قدر الامكان، أن يسأل ما يجري حوله، وأن يستطلع آفاق القضايا التي كانت تطرح، بعنف شديد، على جيل من الشباب حلم بتغيير العالم من خلال تغيير أفكاره . من خلال ابتكار الأفكار. من خلال التطلع الى ما يشبه أفقا من الأحلام المغزولة بالمتطلعات الانسانية المشروعة . لأن الفكر في تلك المرحلة، كان من لهيب المعركة، وكان حارا مثل تلك المعركة، ومتلونا بألوانها، ويتشظى بشظاياها، ويتصاعد بصعودها، ويهبط أيضا عندما تهبط نفحاتها وتطلعاتها الكبرى. فمنذ البداية كان هاجسي الأول أن أجعل الحدث محكا فيه. ولم نكن نتطلع بصورة عامة الى ما يتجاوز البرهة الآنية التي تجعلنا مأزومين بمشكلة أن نحقق كما كنا نقول في ذلك الوقت وجودنا بموازاة وجود الأمة، وأن نجترع شعارات هي لذاتنا كما هي لذات الأمة. فكان التفكير منجبلا بطينة التكوين. فلا تفكير بدون تكوين . كان هاجس التكوين هو هاجس الفكر. ومن هنا كانت لهذا الفكر مزايده، وكانت له سقطاته، لأن التكوين لم يكن دائما على مستوى الأمل فيه..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.