«اليوم فقط وجدت نفسي سعيدة... وأنا أستقبل الربيع بروح منعشة... ومشاعر فياضة وهي تطير بي على أجنحة الزمان والمكان... نبراسها مهج الموسيقى السنفونية... كيف لا والحلم تحقق وخفق له قلبي... وعشت أجمل اللحظات وابهاها... وأنا أتابع صحبة زوجي «سيمون» سهرة فنية تضامنية كبرى كانت أثثتها العازفة التونسية ياسمين عزيز... صائفة 2009 بقصر مدينة الجم حيث توحد الحاضر بالماضي وعانق كليهما المستقبل بمعزوفات الخير والحنين التي تعالى صداها من كل البيوت القديمة بأحياء تستدروس العتيقة. فرسمنا أحلى القبل على تربتها الندية ووقفنا سوية في ربى سهل الجم المترامي حول قصرها العظيم وأنشدنا أروع ما غنت الكندية سيلين ديون... انها مجرد أحرف وكلمات خطتها الكاتبة والصحفية الانقليزية «سوزان هيلد» في مقال مطول نشر لها منذ مدة وهي تتحدث عن مدى عشقها لمدينتنا الفاضلة... لمسرحها ومهرجانها السنفوني العالمي الذي انطلق التحضير له من الآن باعتبار أن هذه الدورة ستكون لها خصوصيات جمالية في جوانبها المتعددة، فالاحتفال بمرور ربع قرن على بعث مهرجان الجم ليس بالامر اليسير... وهو يتطلب جهودا استثنائية من الأخ مبروك العيوني الذي كان أكثر الناس حرصا ليجعل من تظاهرة الجم الدولية صورة ذات معنى. مشرقة على الدوام، فمن طبعة الى أخرى تتعزز مكانة الجم ويشعر زوار المدينة التاريخية بايضافات متكاملة، فصولها متمازجة الألوان والحركات... بل هي فراشات عادة ما تأتي بربيع الأمل فيتعطر الكون بزهر الأقحوان... فمهرجان الجم الذي كان مجرد فكرة بسيطة خطرت ببال الاستاذ محمد الناصر سرعان ما تحولت الى العالمية ديدنه في ذلك حبه الكبير للمدينة التي أنجبته ولأبنائها... وشيوخها الاجلاء... لعلمائها وأدبائها، بدءا بعلي بلحارث وصولا الى الشاعر محمد زيد رحمه الله، دون التغافل عن المناضلين والوطنيين الصادقين الذين صنعوا مجد الجم المزهر... فكانت هذه الهدية المباركة وهذه الياقوتة الثمينة يتزين بها الأهالي على مر السنين... فكانت السنفونيات... وكان الطيف النوراني الذي جعل مدينة الجم تسبح في عالم من الضياء وتهيم في دنيا الجمال، فيها عادت للجم بهجتها ورسمت على ثغر قصرها ابتسامة الولاء والوفاء لرجل الوفاء... وصنعت من رياحينها باقات يانعة تفوح بشذى العطرشاء... ومهرجان الجم الدولي للموسيقى السنفونية يعتبر من خيرة ما ثمة من تظاهرات ثقافية وفنية ببلادنا لما يحمله من خصوصية فريدة ومتميزة استقطبت أنظار العشاق في الشرق والغرب... وهو حقيقة استثنائية بخلقه لتقاليد الموسيقى السنفونية الراقية دعما للثقافة عموما... والثقافة السياحية تحديدا... فقد رمّم مهرجان الجم ما تداعى من شخصية التاريخ والفن كما رمم مقال السيدة سوزان هيلد... مفردات الماقي فينا وأعادنا في غفلة من القدر الى نحو 25 سنة... اعادنا دون شعور منا الى أجواء الرقص والغناء والانتشاء ونحن في قمة الامتاع... والابداع الأبدي لابنتنا وعروسنا التونسية ياسمين عزيز... بل هي ملكة في قصر كما وصفتها «سوزان هيلد». ليت بافاروتي عاش لأنه فنان من طينة خاصة فمن الصعب أحيانا على الواحد منا أن تحتفظ ذاكرته بوجوه كثيرة... لأنها وجوه بلا ملامح... تتبخر مثل ضباب الصيف... والتفرد ميزة لا توهب للدخلاء المتطفلين.. فكثرهم أشباه الفنانين الذين قذفتهم ملاهي شارع الحمراء خارج اسوار الحياة... ولأن فنه كان من الأعمال التي علقت بالأذهان وبقيت محفورة في أسطر الوجدان.. في الدم... والشريان فإنه سيظل ثاتبا رغم أن السنين تدور ولا تزال حولنا آلاف المرات.. سيبقى فن بافاروتي مرسوما على مدار الأيام.. وإن كان الموت قد سرقه على حين غفلة منا فإن تاريخه باق يتحدى سنين العمر.. يتحدى الحاضر والآتي.. فالعمل الصادق والكلمة... بل الإحساس الحي لا يموت أبدا.. إنما يجد له مكانا ليواصل الازدهار ويقف في وجه الزمن ويؤكد أن الفنان المبدع ليس بجسده فالجسد فان... والروح باقية.. بافاروتي الذي أحب الجم كم تمنى أن يصدح بصوته في رباها.. في قصرها الشامخ.. كم تمنى الغناء على ركح كوليزي «تسدتروس» فينشر قيم الحب والتسامح بين بني البشر... ويبعث برسالة سلام إلى كل العوالم في ليلة الحب والتضامن والسلام من مدينة «السلام» هي الجم... ليت بافاروتي عاش حتى ينسج من خيال حلمه ترنيمة جديدة توشّح صدر مدينة الجم ويلبس مهرجانها تاجا لؤلئيا يثير الوجود بدلا من تلك الغربان التي تنعق كل عام في مختلف مهرجاناتنا الدولية والمحلية فتعتم المكان والزمان. وتدك الأركان، لتحول فرح الإنسان إلى أحزان... بافاروتي الأسطورة لا يقبل التكرار وما الموت الحقيقي إلا موت الإحساس.. صحيح أن الزمن يأخذ منا كل شيء... أعز ما نملك.. إلا مشاعرنا.. حنيننا يبقى في أعماقنا السر الدفين الذي لا يسلبه منا أحد.. حتى وإن عاهدنا الزمن .. وبافاروتي فيض عطاء بلا حدود... حيث يصدح بصوته تستحيل الأوبرا معه إلى لحظة أبدية تثبت في صحراء ليالينا وإن قصر زمانها تدوم عذوبتها ويصبح لها دوي النحل في تناغمها ومذاق العسل في تمازجها تعيد على مسمع النفس خوالج الوجدان ليت بافاروتي عاش فيكون للحلم طعم.. وللحقيقة مذاق ويكون الزمان هو الشاهد الوحيد على صدق بافاروتي... إنه كان رجلا من الزمن الآخر لا يقبل الاستنساخ... لقد رحل بافاروتي دون أن يضيء مصباح فنه مقامر مسرح الجم الروماني... ولأنه علم في صوته نار فقد ترك على صفحات وجناتنا تجاعيد أحرقتها دموع الوداع.. الفرنسية «ناتالي ديساي» المتخصصة في توثيق الموسيقى السنفونية تحدثت من جانبها عن الجم ومهرجانها ومدى قدرة مدينة الجم على استقبال عظماء الفن والتاريخ حيث أبدت أسفها الشديد على رحيل لوشيانو بافاروتي وقالت في مقابلة لها مع «فرانس2» الأربعاء 24 فيفري الماضي «ربما كان باستطاعة هذا الفنان العالمي تغيير وجهة التاريخ.. في الجم.. ربما لو عاش وقدم عرضا واحدا في الجم لتحدت سفينة الإبداع مدارا جديدا في فضاء ثقافي وفني لا مثيل له.. لا بأس.. فمهرجان الجم السنفوني بتميزه واختصاصه بإمكانه أن يجسد حلم بافاروتي في مناسبة جليلة باحتفاله بمرور 25 سنة على بعثه من خلال احتضانه لصوت العجوز شارل أزنافور ويعيد للأذهان مجال شهريار ويقتطع من مجد التاريخ صفحة تكون له بمثابة جواز سفر في كل أصقاع الدنيا.. فمثلما تعانقت الأرواح في مسرح قرطاج الأثري.. فإن في الجم ستكون قصة أخرى.. ومعنى آخر للحب.. أزنافور وحده القادر على أن يجعل التاريخ والفن بلون واحد يتعانقان على لوحة فسيفسائية تسلب الألباب.. فشكرا ثم شكرا للسيدة «سوزان هيلد» التي أيقظت فينا مجددا مشاعر الحب والوفاء لمهرجان الجم وكل الذين يرجون لمنطقتي الخير كل الخير من أبناء تونسنا العزيزة.. إن الجم ستبقى مدينة لصانع التغيير الذي أعاد لها الاعتبار بعد عقود عاشتها تحت مظلة الطمس والتهميش والإقصاء.. والنسيان.