عند حديثنا في «النافذة» السابقة عن أسلمة إفريقية، تعرّضنا إلى ظاهرة التخلّي التدريجي عن اللغة اللاّتينية لفائدة اللغة العربية، وأعطينا مثالا على ذلك بمقارنة طريفة أجراها أحد الباحثين بين قوائم لأسماك بنزرت ذكرها الرحّالة البكري( المتوفّى أواخر القرن الحادي عشر)، وأخرى ذكرها الرحّالة الإدريسي ( المتوفّى أواسط القرن الثاني عشر)، فوجد أكثر الأسماء في الأولى لاتينية، وأغلبها في الثانية عربية أو معرّبة، وقليل منها لاتيني. وبهذا يظهر أن تلاشي التّأثير الروماني في إفريقية تطلّب بضعة قرون، لكنه تحقّق في النهاية، بفعل مقوّمين رئيسيين ومتّحدين، هما الدين الإسلامي واللغة العربية، ومع أن انتشارهما تطلّب وقتا وجهدا، فإنه في النهاية كان باتّا ' وبلا رجعة. وقد وجدنا لدى المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان(1) ذكرا لذلك الانتشار واستشهادا بما قاله في شأنه بعض الرحالة العرب. فاليعقوبي حسب روايته حين وصف بلاد البربر في النصف الثاني من القرن التاسع، كان «يميّز إلى جانب البرابرة بين الأهالي الرّومان، سلالة رعايا الإمبراطورية البيزنطية السّابقين، والأهالي الأفارقة، سلالة أصيلي البلاد «المتروّمين». أما البكري فإنه لم يجد حاجة في أواخر القرن الحادي عشر إلى التمييز بين الأهالي نفس التمييز، مما قد يذهب بنا إلى الاعتقاد بأن انصهار جميع عناصر السكّان قد تمّ، إلى حدّ كبير على الأقلّ، بعد ثلاثة، أو أربعة قرون من الفتح». ورأينا في مراجع عديدة أن عقبة ابن نافع وجنوده بدأوا يعلمون أهالي إفريقية قواعد الإسلام واللغة العربية منذ أيام الفتح الأولى، من ذلك ما ذكره حسن حسني عبد الوهّاب (2) من أنهم «...لأول وهلة من فتحهم أنشأوا «قيروانهم»، فكان لهم في آن واحد مركزا حربيّا، ومحطّا لرحالهم وعيالهم، وقاعدة لبثّ لسانهم ومبادئ دينهم القويم». وما اورده في موضع آخر(3) : «إن الكتاتيب اعتبرت من أول انتصاب العرب بإفريقية كملحقات للمساجد وتوابع لها، فما من حارة أو درب من دروب المدائن التونسية إلا وكان بها من أقدم العصور عدد من الكتاتيب». وهكذا انتشرت الكتاتيب والمساجد في كل حارة ودرب، وتجنّد الفقهاء والمعلمون لتعليم الأهالي وتفقيههم، مع اتّخاذ وسائل أخرى اجتماعية واقتصادية هذه المرّة إما لتشجيع الأهالي على الاستقرار بالمدن المنشأة حديثا في المنطقة الوسطى من البلاد، وإما لترغيبهم في الانضمام إلى الجيش، أو امتلاك أراض يزرعونها فتنسيهم حياة الترحّل والبداوة. أما الذين رفضوا تلك الحلول رغم إسلامهم فقد لجأوا إلى جبال الشمال أو صحاري الجنوب، واختاروا الحفاظ على حريّة حركتهم، وصحبة الخوارج من كل صنف. وقد استند الشاذلي بويحيى (4) في تأييد الفكرة القائلة بأن الحركة الأدبية والعلمية إنما ازدهرت في المنطقة الوسطى من بلاد إفريقية - أي ما بين القيروان والمهدية – إلى كونها الأكثر عمرانا من مناطق الشمال الجبلية ومناطق الجنوب الصحراوية، ليضيف بعدئذ أن «هذا ليس غريبا، لأن انتشار الإسلام اعتمد أساسا على الحياة المدينية وما تتطلبه من اجتماع وعمران، وتبعه في ذلك وتلازم معه انتشار اللغة العربية، «مشيرا في أحد مراجعه (5) إلى الروابط المتينة التي تنشأ عادة بين حياة المدينة واللغة المشتركة لسكانها، وكانت هي العربية في مدن إفريقية، حيث ترتكز السلطة ويكثر الموظفون ويعسكر الجنود ويسكن الوجهاء، وكلهم من العرب، فلا يملك سائر الأهالي إلا معايشتهم و اتّباعهم. (1) جوليان (شارل أندري) تاريخ إفريقيا الشمالية، تعريب محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدارالتونسية للنشر، تونس 1969 ص 384. (2) عبد الوهاب (حسن حسني)، كتاب العمر، المجلد الأول، بيت الحكمة، تونس 1990 ص37. (3) ن.م. ص.57. (4) بويحيى (الشاذلي)، الحياة الأدبية في إفريقية على عهد بني زيري (بالفرنسية)، تونس 1972 ص230. (5) ويعني به ويليام مارسي الذي نشر في أحد كتبه فصلا عنوانه «كيف عرّبت إفريقيا الشمالية».