جدران سوداء كانت قبل صباح الجمعة الفارط بيضاء وأرضية منزل غطتها مياه سوداء هي مياه المطافئ ممزوجة ببقايا حريق التهمت نيرانه أبواب منزل الكاتب التونسي الحر «سليم دولة». وحتى قططه، التي كانت ترتعش فوق خزانة، بغرفة الجلوس غطّى سواد الدخان بياض فروتها كما ضيّق الدخان تنفسها، فلم تقدر على الحركة ثلاثة أيام متتالية. «سليم دولة» الذي كانت آثار الحريق جلية في ساقيه ويديه، لم يكترث لأوجاعه ولإصاباته وكان يداعب قططه وخاصة منها «أوراد» (كما يطلق عليها صاحبها) ويقدّم لها الحليب في أواني نظيفة اقتناها لها قبل الحريق بيوم. «نجوت بأعجوبة.. وعذرا لمستغانمي»! يقول المتضرّر: «نجوت بأعجوبة من الموت، وأنا مدين لجيراني بحياتي مرة واحدة والى الأبد».. ويواصل: «لو أن جيراني لم يفتحوا لي منفذا للخروج لكنت الآن ميّتا بكل تأكيد». كان صاحب «ديلانو شقيق الورد» يحدثنا بمعنويات مرتفعة، وكأن شيئا لم يكن، بل إنه رغم الحريق وبين بقاياه لم ينس شكر أصدقائه وجيرانه، و«من يحبّ حبريا وإنسانيا» كما جاء على لسانه، وفي هذا الاطار قاطعنا قائلا: «أستغلّ حضوركم لأقدم اعتذاراتي للكاتبة والشاعرة والروائية الاستثنائية أحلام مستغانمي لعدم مشاركتها فرح التونسيين لحضورها في مسقط رأسها تونس، وأتمنى لها ربيعا جديدا على اعتبار أن عيد ميلادها يوافق يوم 30 من هذا الشهر». الاختناق أوقف كارثة «كيف اندلع الحريق، ومتى كان ذلك؟» سألنا صاحب «السّلوان» فقال: «في حدود الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة تقريبا، كنت نائما.. أحسست باختناق أيقظني من نومي.. نهضت لأتثبت من الأمر فوجدت ثلاجتي قد التهمتها النيران.. سعيت في البداية الى إطفائها بلحاف لكن هيهات.. كل الأغطية حرقت لم أقدر على إطفاء الثلاجة، بل التهمت النيران الباب الخلفي للمنزل وباب دورة المياه..». وأكد سليم دولة، أنّه تذكّر، قارورة الغاز الصغيرة الموجودة بالثلاجة، فما كان منه على حدّ تعبيره إلا أن يحاول جاهدا إخراج الثلاجة من المنزل والرمي بها في «المنشر» حتى لا تحصل كارثة لسكان العمارة بأكملها، وهو ما حصل فعلا»، وفق ما عايناه على عين المكان وما أكدته احدى جاراته التي شكرها «سليم» أكثر من مرّة مباشرة وقال إنه مدين لها ولعائلتها بحياته. بعد ذلك يقول الكاتب التونسي المتضرّر: «جاءت فرقة الحماية المدنية مشكورة، وأطفأت ما تبقّى من الحريق.. والحمد لله على كلّ حال..». معنويات مرتفعة! في مدخل المنزل حصل الحريق، أي في البهو الذي كان يفتح على غرفة نوم المتضرّر وعلى المطبخ ودورة المياه، كان الحريق، وكانت الأضرار، وأما بقية الغرف، فإن الدخان غمرها بسواده لا غير، فأول ما تطأ قدماك بهو منزل سليم دولة من الباب الرئيسي تجد على يمينك حاسوبه العائلي ومكتبته القيمة، ومن حسن حظه أن الحريق لم يصل الى هذا المكان، لكن من سوء حظه أن الدخان غمرها بسواده، حيث يقول: «لست آسفا إلا على ارتعاد قططي وسواد كتبي، وأما الأضرار المادية، فأنا لها، كلّفني ذلك ما كلّفني..». كان سليم دولة يحدثنا بمعنويات مرتفعة، رغم أن ملامح وجهه تؤكد أن الرجل يعاني من أوجاع كبيرة في الجسم وفي الخاطر أيضا، فرغم كونه شدّد على أن معنوياته مرتفعة رغم كل شيء، ورغم اعتذاره من أحلام مستغانمي، وشكره لأصدقائه وجيرانه، ورغم النظارات السوداء التي تغطي الجرح الداخلي المنبثق من عينيه، فإن الحرقة في نفسه كانت تبدو لنا أكبر من كارثة الحريق، لكن سليم دولة في داخله قوة شخصية تجعله يرفض حتى الشكوى من القدر كأي إنسان، ويرفض حتى زيارة الطبيب لولا أن بعض أصدقائه أقنعوه مؤخرا بضرورة إجراء الفحوصات اللازمة. بل إن قوة الشخصية هذه جعلته بمجرد قراءة خبر احتراق منزله ب«الشروق» يسارع الى مهاتفة والدته ليعلمها بكونه بألف خير، وأن الحريق بسيط رغم أنه ليس كذلك. هكذا هو سليم دولة في حياته كما في كتاباته يرفض الضعف والاستسلام، لأن مبدأه في الحياة كما يقول: «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة.. كما يقول ابن حورية (محمود درويش)..».