لنتابع الحديث عن رواياتك في «قصر النخلة» هناك قصة حب معقدة ؟ كان المسلمون واليهود يعيشون جنباً الى جنب، ونجد فيهم اللامبالي والتقي، ونراهما أحياناً زوجين زوجين، يذهب كل واحد الى صلاته في نفس الوقت تقريباً، أحدهم للجامع والآخر للكناس، يشتركان في العمل والتجارة، حتى يكاد كل منهما أن يتحد بالآخر . ثم فجأة ينفجر بينهما حزام ناسف، وارث الحب الذي ربط ابن الجزار، وبين بنت بائع الجلود اليهودي. فيتوقف الزمن في نوع من الحيرة. ما أهدر من مكاسب كان يمكن أن يكون مرتكزاً لحياة مشتركة، بعيداً عن العداء والتشنج، وتتواصل الحيرة متسائلة عن المستقبل. ليس هذا في الحارة فقط، بل في ذلك الشباب الذي بدأ يوجد مع الحياة الحديثة، المتسكع، والذي يجد متعة كبيرة في ساحة البيع اليهودية، أمام دكاكين الخمرة، وباعة المأكولات المصاحبة، وقصة عشق محرمة بين زوجة «الربي» وأحد شباب اليهود، تثير غضب المسلمين، وتتعاطف مع «الربي»، ثم تثير عطفهم على العاشق الذي يرقب معشوقته من بعيد. ومسعود بطل الرواية يعيش قصة حب غير مسبوقة. كيف يمكن لشاب مسلم، أن يعشق يهودية .كيف يجرؤ على التصريح بذلك؟ وكيف تبادله هي ايضاً نفس العواطف؟ وماذا يفكر الحاج عمر أبو العاشق في هذه الغرابة، التي لم يتوقعها أبداً ؟ يصاب بالذهول . وبالعجز عن فرض ارادته . لكنه يجد الحل في الهروب فيفر بابنته الى مايسميه بأرض الميعاد. هل هذه الوقائع التي سجلتها، فتحت الباب للكتابة عن القضية الفلسطينية ضمن الرواية؟ في هذا الاطار الزمني، كان الغليان في مدنين والحماس المنقطع النظير لفلسطين وحرب فلسطين. وكيف تدفق المؤمنون بالقضية الفلسطينية نحو فلسطين، بالروح فقط . بلا عتاد وبلا قيادة . الا اذا استثنينا مناضلي الحزب الدستوري آنذاك، الذين قادوا بعض المجموعات وقاموا بتدريبها تدريباً بسيطاً في سوريا ومصر. كانت السلطة في مدنين سلطة عسكرية طاغية،تحكم مدنين بأسلوب خاص، أسلوب المراقب العسكري للمراقب المدني، وكل مدنين تراب عسكري آنذاك .تحرم فيه السياسة وما يتصل بها . حتى أن الرئيس بورقيبة زار كل الجهات لكن عندما تقدم نحو مدنين قادماً من جربة، أوقف في الجرف ووجه قصراً نحو قابس . هل لأحداث الرواية تسلسل منطقي ؟ هو زمن يكاد يكون لا معقول، لا يفلح معه التسلسل المنطقي للأحداث . فكان أن اخترت بنية قصصية متعددة ومتداخلة، اخترت نصاً من رواية لسمويل بيكيت «كيف هو؟» وجدت فيه اتفاقاً مع شطحات احدى شخصيات «بوعضلة» الذي لا ندري هل هو مجنون أم فيلسوف . كيف يمكن أن تنسق كل هذه الأحداث في رواية واحدة ؟ عندما ظهر الأنبياء اليهود حاجين الى مكة، وعندما غرق مسعود في حب «استير» وعندما تذكر والدها جده الفار من محاكم التفتيش باسبانيا. واستقر بجربة ثم مدنين. تبين أن كل ذلك يصدر عن جحيم واحد . هو جحيم التعصب. والانغلاق. وكره الآخر . توقاً على استعادة ما هو مشرقي في هذه التجارب، فالمسلمون واليهود كانوا أصدقاء في الأندلس، وكانوا ضحايا بنفس الطريقة في محاكم التفتيش . والأنبياء في صفائهم الروحي لم يكونوا يعرفون الحب والكراهية. والمحبون العشاق تتهاوى أمامهم الحواجز المفتعلة، حتى لو بلغت في تعقيدها شأناً بعيداً عبر الأحداث وعبر التاريخ . هل الرواية رواية تاريخية ؟ رغم أن الرواية تعيش بالأحداث التاريخية، وشبه التاريخية. لكنها ليست بأي حال رواية تاريخية. في روايتي الثانية، هناك الكثير من ملامح طفولتي، ملامح أشخاص عرفتهم، كرهتهم أم أحببتهم، أو تقت على معرفتهم ودخول عالمهم. فافلحت أم لم أفلح. وعندما تمكنت من معرفتهم معرفة حقيقية، ولجت عالمهم عن طريق قلمي، وتخيلت لحظات سعادتهم وتعاستهم في نفس الآن . كنت مبهوراً مثلاً بشخصية المرأة الشامية وبفنها ورقتها. من خلال ما سمعت عنها من العائلة. وكنت مبهوراً كذلك بعالم السينما، كنت أرتادها مرة أو أكثر في الأسبوع . أجمع بعض الفرنكات ثم الملاليم . التي أحصل عليها من والدي، حتى أتمكن من اقتطاع تذكرة لمشاهدة فيلم, 90 مليم، مائة ناقصة عشرة، حتى يفلت صاحب القاعة من الأداء. كان عالماً سحرياً، وكانت الشخصيات في مدنين كثيرة ومثيرة للدهشة . من أشهرها : باعة البريك والبطاطا اليهود . كذلك «جمني» و«فرديطسة» وغيرهما من الشخصيات البريئة، العابثة والسكيرة. يضاف الى هؤلاء تلك الشخصيات المعروفة بنضالها، واحد الزعماء الأكثر بروزاً كان من أقاربي المعروفين، كنت أرتاد نادي الحزب لمشاهدة الحلاق الشهير «عبد السلام بن تميم». يمثل شخصية «الهادي شاكر» ليلة اغتياله. في وقت كانت فيه السلطة الفرنسية تعرض فيلماً سينمائياً عن الرمد في ساحة السوق . هذا الخليط من الشخصيات والأحداث، تنضج في ذهني تدريجياً، وتعيش يومياً. وتؤرقني لأنني لم أستطع ضبطها وتقييدها في مخطط واحد، كما فعلت في الرواية الأولى. وكلما جلست أمام الورق همت من حدث إلى آخر. وعجزت عن بدء أي حدث وأي شخصية، فأترك القلم وأترك الورق . لذلك اقر بأنني خشيت على روايتي هذه أن لا تكتب . فاندفعت أكتب بدون تخطيط لأجرب حظي. فوجدت عند ذلك الطريق. وتبين لي في شيء من الضبابية الملهمة والشاحذة للخيال. وكنت أحياناً أخطط مرحلياً بعد هذه الانطلاقة العفوية، وهكذا كتبت روايتي هذه، بأسلوب الرواية، ولا شك أن ذلك يعود اساساً الى اختلاق المرحلة التاريخية التي كانت تعيشها مدنين، «قصر النحلة» هو زمن البطولة. «وسرنديب» أو الحارة فهي زمن المخاض الذي يبشر بولادة عالم جديد، مع ما في المخاض من عسر، ومع ما فيه من غموض، في ذلك الزمان على الأقل . هل تعمل على جمالية اللغة ؟ لا أتكلف كثيراً عند الكتابة، وأعترف أنني لا أراجع كثيراً مسوداتي. لكنني أعود اليها من حين إلى آخر في تعديل حدث ما، وتبعياً في تعديل بعض الكتابات. ما أكتبه في المسودة أقدمه للرقن. وهو ما أفعله لاصلاح بعض الأخطاء اللغوية من صرف ونحو، في بعض الأحيان أتعمد اسناد مهمة خاصة في اللغة والأسلوب، وذلك عندما أريد أن أكتب مشهداً معيناً, يفلت من الكلام العادي، الذي يضيق ببعض المعاني التي يراها الكاتب جليلة تتعلق بأزمة ما . بحالة روحية خاصة، أو بحس وجودي فريد حتى ولو كان عابراً . عند ذلك ورغبة في اقناع القاريء، ألجأ الى تسوير المعنى وتسييجه، بجدران متعددة حتى أحصره قدر الامكان، وأقربه من وعيي ووعي القاريء . تلك بعض الحالات التي تفرض علي أن أجتهد في اختيار اللفظ والتركيب، ما عدا ذلك، أكتب بطريقة شبه تلقائية، وأراجع بعض الكلمات لمتابعة الفكرة، التي أجدها غالباً أسرع من القلم، في حالات الالهام. ما رايك في الرواية التونسية ؟ أعجبت كثيراً برواية كمال الرياحي «المشرط» على مستوى المضمون من حيث جرأة الكاتب، أو على مستوى البناء الذي اختاره لروايته . لكنني لم أعجب كثيراً برواية محمد الباردي التي فازت بالكومار الذهبي سنة 2005. في رأيي غاب عن الرواية الصدق الفني . وغلب عليها التكلف في الكثير من الحالات . كيف وفقت بين دورك كسياسي ونشاطك الثقافي ؟ الحياة في المدينة تختلف عن المدن الصغرى والقرى, ومدنين وان كانت مدينة، فهي لا تضاهي بعض المدن الأخرى المعروفة. بتمكينها بمن يريد التواري أن يتوارى.لا يمكن لشخص ينتمي إلى عائلة معروفة أن يمر في الخفاء سلباً أو ايجاباً. لذلك وجدت نفسي شخصياً، مدفوعاً الى المشاركة في النضال اليومي لمجموعة بشرية أنتمي اليها وأحبها، ومن المفارقة أنني دخلت الثقافة ميداناً مبجلاً, فدفع بي الى السياسة دفعاً، كنت مولعاً بالتنشيط الثقافي. ومرة أخرى أقول في تبرير ولعي لهذا بأنني كنت أصدر عن حب عميق لهذه المدينة، لذلك كنت أريد لها أن تعيش ما يعيش غيرهامن أخبار ثقافية، كنت أتابعها بشغف، وكان السؤال الذي كنت أطرحه دائماً على اللجنة الثقافية في الستينات : لماذا لا نجلب أعمالاً مسرحية، ولا أقتنع برد . حتى حانت ساعة ولادة مهرجان مدنين الثقافي سنة 79. كنت مؤسساً لهذا المهرجان صحبة أصدقاء مثقفين، كان يجمعني بهم على مستوى المكان نادي ابن عرفة الذي كنت أرأسه، وولد هذا المهرجان مهرجانات أخرى، أهمها مهرجان المسرح التجريبي، وملتقى الشعراء، وقد رأيت آنذاك بعد التشاور مع الأصدقاء أن ننقل العروض المسرحية من الصيف الى الشتاء، وحتى لا نغمر هذا الفن الرفيع النبيل، فكان أن أسسنا مهرجان مسرح التجريب، في جانفي 1992. الذي يستقل بجمهوره ولا يغمر بالعروض الفنية بالموسيقى. وهكذا ولجت عالم السياسة، خاصة وأننا في مجموعتنا نؤمن بدور الثقافة في ارساء الديمقراطية والتعبير الحر . تحملنا مسؤولياتنا حين جد الجد . لكن ينبغي أن أضيف أنني تخليت عن التنشيط قصد تفرغي للكتابة، لكنني أجد نفسي يومياً محل تساؤل أولئك الذين تابعوا المسيرة الثقافية، وهو الأمر الذي يبعث فيّ بعضا من الحنين الى التنشيط الثقافي. والذي أدى بي الى المساهمة في تكوين منتدى أسميناه «المنتدى» بالتعاون مع المندوبية الجهوية للثقافة، وهذا المنتدى يطرح على نفسه مناقشة قضايا فكرية، تهم النخبة، وهو ما تفتقر اليه الساحة في الوقت الحاضر، رغم كثافة النشاط الثقافي بألوانه المتعددة . مشاريعك الأدبية المستقبلية ؟ بعضها أنجز، وبعضها بصدد الانجاز، ما أنجز نصان مسرحيان . واحد بالدارجة والآخر بلغة مزدوجة. هل تعمل دائماً في اتجاه مسرح التجريب ؟ أحب الكتابة للمسرح، جل أعمالي المسرحية يطغى عليها التجريب, لكن لا أجد في وسطي من يغامر بتقديم هذه الأعمال المسرحية. رغم رغبة الفرق في التعاون معي في هذا الصدد، لأن هذه الأعمال تتطلب ممثلين محترفين، أو هذا مايقوله على الأقل بعض المخرجين الذين اتصلوا بي. ربما أمسك عن الكتابة لهذا السبب، فأنا لا أؤمن بنص مدفون في المكتبة. فبينما تكون الرواية أن توجد بذاتها في علاقتها مع القاريء، لا يمكن للمسرحية أن تكون كذلك، الا اذا وقع تفسيرها على الركح . في خاطري مواضيع مسرحية متعددة. أما على مستوى الرواية، فمشاريعي متعددة هي أيضاً، بعضها في بداية الانجاز، وأرجو أن أتمكن من انجاز هذه المشروعات في وقت مناسب . لديك فكرة عن تاريخ مدينة مدنين ؟ نعم، محاولة للتأريخ لمدنين من وجهة نظر كاتب روائي، لعله يتطفل على ميدان ليس ميدانه. لكن ماذا تريدين حبي لمدنين يجعلني وباستمرار أحاول سد ثغرة من الثغرات التي لم يلتفت لها الغير. وأنا أؤمن أن المحلي هو طريق العالمية في كل شيء. اذا كان العمل واعياً قادراً على الارتقاء والتخلص من شوائب المحلية الضيقة.