المثل العراقي الشهير «بعد خراب البصرة»، الذي كان يطلق على قدوم العون والنجدة بعد فوات الأوان، صار يحتاج اليوم إلى تعديل كبير ليصبح «بعد خراب العراق»... وذلك لاختزال اعتراف السيدة لورا بوش زوجة بوش الابن الذي غزا واحتل ودمّر العراق بتعلة تجريده من أسلحة الدمار الشامل حين قالت بأنها «صدمت وزوجها (الرئيس الأمريكي السابق)، حين تبيّن أن العراق لا يمتلك هذه الأسلحة المحظورة التي قدّمتها الإدارة الأمريكية مبرّرا للغزو..» هل نقول إن هذا الاعتراف لم يعد ينفع بعد خراب العراق؟ وهل يكفي دولة دمرت مؤسساتها وشعب دمرت حياته وغرق في بحار من الدم والخراب والدمار أن تعترف سيدة أمريكا الأولى (السابقة) بأن العراق كان فعلا خاليا من أسلحة الدمار الشامل المزعومة.. وبأن قرار الغزو كان بالتالي قرارا جائرا وظالما وبدون مسوّغ أخلاقي أو قانوني.. ناهيك عن أنه جرى خارج أطر الشرعية الدولية... قد تصبح هذه الأسئلة غير ذات جدوى ولا معنى في ضوء النتائج الكارثية التي أحدثها هذا القرار الخاطئ.. وفي ضوء المأساة التي مازالت متواصلة والتي تجعل شعب الرافدين وهو الذي علم البشرية القانون والكتابة في دلالة على النظام والعلم يغرق منذ 2003 في الفوضى العارمة وتتفكك دولته ويتشظى كيانه إلى ثلاث دويلات طائفية وهو الذي كان يوفر أروع مثال للتعايش العرقي والطائفي.. ومع ذلك فإن كلام سيدة أمريكا الأولى (السابقة) يستدعي الكثير من الملاحظات.. ملاحظات تحيلنا رأسا إلى تلك الأجواء الساخنة والمحمومة التي صنعتها ماكينة السياسة والاعلام الأمريكية والصهيونية والغربية والتي عملت على «شيطنة» نظام الرئيس الشهيد صدام حسين وتصويره على أنه «نظام مارق» ويكدّس أسلحة الدمار الشامل ليصبح «خطرا ماحقا» على الغرب عموما وعلى اسرائيل (قاعدته المتقدمة في قلب منطقتنا العربية) وهو الذي دكّها ب43 صاروخا ويرفع في أدبياته السياسية شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ليس هذا فقط، بل إن أنظمة عربية عديدة انخرطت في جوق الكذب هذا إما حاقدة حاسدة وإما خائفة وإما طامعة.. وكلها دول لم تتوقف عن ترديد أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية وعن دعوة العراق الى التعامل الايجابي مع بعثات التفتيش.. وهو ما حمل العراق وقتها وفي سياق سعيه لسحب الذرائع والحجج الواهية الى فتح حتى غرفة نوم رئيسه أمام المفتشين.. لكن دون جدوى.. والآن ماذا يعني اعتراف السيدة بوش وزوجها بعد خراب العراق؟ وهو اعتراف يأتي في سياق سلسلة كاملة من الاعترافات صدرت عن رموز كبار في إدارة بوش من عيار «كولن باول» وزير خارجيته؟ هذا يعني أولا ان العراق كان صادقا وأن أمريكا كانت كاذبة.. وأن صدام حسين كان صادقا وبوش الابن كان كاذبا.. وهذا يعني ثانيا أن الكذب هو أداة من أدوات الحكم لدى الادارة الأمريكية التي يمكن (كما فعلت سابقا) أن تروج حاليا لكذبة وأن تبني عليها قرارات خطيرة ومصيرية لهذه الدولة أو تلك.. وأن تأتي بعد خراب البصرة والعراق فتقول إن المبرر كان خاطئا.. كما يعني هذا الاعتراف ثالثا أن مصداقية الادارة الأمريكية قد تشظت إلى غير رجعة طالما أنها مع ما تمتلكه من أجهزة استخبارات ومن تجهيزات وتكنولوجيا متطورة جدا يمكن أن تخطئ وأن تبني قرارات خطيرة على معطيات خاطئة ومغلوطة.. فمن يصدق الادارة الأمريكية بعد اليوم في اسطوانة انتهاكات حقوق الانسان المزعومة والتي ترددها صباحا مساء لترهيب وتركيع هذه الدولة أو تلك.. ألا يصحّ لهذه الدول أن تصرخ في وجه أمريكا: اكنسي أمام بيتك أولا ودققي في معلوماتك ثانيا.. وفوق هذا كله ألا يحق للعراق أن يطالب بتعويضات مجزية عن الغزو والاحتلال ومئات آلاف الضحايا الذين سقطوا وعن الدولة التي دمرت وعن الثروات التي نهبت وتنهب وعن وحدة البلد التي انهارت وعن القيادة الشرعية التي اعدمت وعن آلاف الشرفاء الذين يقبعون في سجون الاحتلال وملايين المشردين الهائمين في بلاد اللّه. الآن أيضا.. ومرة أخرى.. حق لروح الرئيس الشهيد صدام حسين أن ترتاح: لقد كان صادقا، نزيها، شريفا.. وكانوا كاذبين، متحاملين، متآمرين.. والتاريخ سيحفظ هذه الدروس، والمزيد منها..