يبدو أن التاريخ بصوره المشرقة الناصعة، وملابساته السوداء القاتمة، اتحد مع مكونات المجتمع المدني بصفاقس ، فمع الدعوة القضائية الإدارية التي تقدم بها مواطنون وممثلو جمعيات من الجهة ضد وزارة الثقافة والمحافظة على التراث ووزارة التجهيز والإسكان وبلدية صفاقس وشركة تهيئة صفاقسالجديدة ..مع مجموع كل هذه القضايا التي لم تبت فيها المحكمة بعد، لفظت الأرض المتنازع عليها زوال أول أمس الإثنين من أديمها 3 قنابل من زمن الحربين العالميتين وفسقيات تعود إلى العهد الأغلبي لتعرف بذلك القضايا المنشورة ربما منعرجا جديدا ينصف التاريخ على الأقل .. القنابل الثلاث والفسقيات الأغلبية كشفتها حضائر البناء التي انطلقت أول أمس الاثنين في تهيئة الأرض المتنازع حولها والتي تعرف شعبيا بأرض جامع سيدي اللخمي و هندسيا و تقنيا بالتقسيم عدد 23 بباب الجبلي بصفاقس .. الأحياء و الأموات وحتى نضع القارئ في الصورة نقول إن الأرض المتنازع عليها كانت في الواقع مجموعة من المقابر على بعضها شيدت بعض الدكاكين التي أزيلت كما أزيلت المقابر في إطار تهيئة صفاقسالجديدة، لكن بعد عدة قضايا اختلفت الأحكام فيها، انتزعت الدكاكين من أصحابها وتمت تهيئة المنطقة لإنشاء مدينة عصرية أطلق عليها وقتها «صفاقسالجديدة» والتي من أجلها تم تكوين شركة عمومية تحمل نفس الاسم أي صفاقسالجديدة .. الشركة المسؤولة عن صفاقسالجديدة، أعدت مثالا للتهيئة، وفوتت في بعض الأراضي والمقاسم لفائدة الخواص لتشييد بناءات عمودية وهو ما تم بالفعل إذ غصت المنطقة بالعمارات العالية فحجبت السماء وغطت الأرض بالمباني المتلاصقة والسيارات المكتظة وضاع بينها «مدفع رمضان» و خفت صوته حتى جاء القرار النهائي في التخلي عن خدماته بمنطق التمدن و التطور.. ارتفعت الأصوات عاليا منادية بعودة المدفع ، لكن صوت البلدية كان وقتها أعلى من صوت المدفع الذي تحول إلى قطعة أثرية فدخل التاريخ بعد أن خرج من الجغرافيا .. أزيلت المقابر رغم الاعتراضات، وأزيل المدفع رغم النداءات، وكان مبرر الجهات المسؤولة توسعة صفاقس التي ضاقت في شقها الشرقي من جهة باب البحر، وكان لزاما أن نترك مكانا للأحياء لا للأموات ليستطيب العيش .. من هذا المنطلق بدأت الأشغال و أتت على كل أراضي صفاقسالجديدة، وقد انتبهت الشركة إلى ضرورة ترك بعض المساحات الخضراء واستقر رأيها على التقسيم عدد 23 – المتنازع عليه حاليا - لعدة اعتبارات: أولا لأنه في واجهة الطريق الرئيسي ، وثانيا لأنه قرب معلمين تاريخيين هما جامع سيدي اللخمي وسوق قريعة و القانون يمنع صراحة البناء في المكان. قضايا و التماسات مثال التهيئة لصفاقسالجديدة الذي لم نتمكن من الحصول عليه خلافا لبقية الوثائق التي استجمعناها من هنا وهناك، كان يقضي وقتها ببعض البناءات والمساحات المغطاة المحددة، لكن المساحات تمددت والبناءات اتسعت وارتفعت حتى أن بعض العارفين بمسائل البناء والهندسة المعمارية قال ل «الشروق» إن الشركة تجاوزت المساحات المسموح بها بمئات المرات وهو ما لم نتمكن لا من تأكيده ولا نفيه عند بداية اهتمامنا بجمع تفاصيل الموضوع، لكن مع بداية أشغال التقسيم عدد 23 أمدتنا الشركة بالدليل القاطع على التوسعة والتمدد والتمطط !. التقسيم عدد 23 المشار إليه كان محل انتقادات كل أهالي صفاقس تقريبا، ولئن عبر بعضهم عن اعتراضه للمشروع بالحديث في المقاهي أو صفحات الأنترنات و«الفايس بوك»، فإن 16 منهم قدموا أنفسهم على أنهم «هيئات و جمعيات مدنية» تقدموا بقضايا في الغرض وراسلوا الجهات المعنية واتجهوا للشركة بعدول تنفيذ وغيرها من الوسائل القانونية. العرائض والشكاوى ضد وزارة الثقافة والمحافظة على التراث ووزارة التجهيز والإسكان وبلدية صفاقس وشركة تهيئة صفاقسالجديدة والتي حصلت «الشروق» على نسخ منها يقول نصها «إن بلدية صفاقس رخصت لشركة تهيئة صفاقسالجديدة في إقامة بناية بعدة طوابق بمنطقة باب الجبلي داخل المائتي متر قرب المعلمين التاريخيين سوق قريعة و جامع سيدي اللخمي دون الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة و المحافظة على التراث وهو ما يخالف الفصل 46 من القانون عدد 35 لسنة 1994 المؤرخ في 24 /2/ 1994 المتعلق بإصدار حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية». ويعدد نص الدعوى الإدارية سلبيات البناء في التقسيم عدد 23 مبينا انه «افساد للجمال العمراني للمنطقة إذ لا يعقل إقامة بناية بطوابق عديدة جوار المدينة العتيقة والسور ومكوناته ذات الطابق المعماري ، ثم إنه يحجب أكبر جامع و منارته أي جامع سيدي اللخمي وهو ما فيه مساس بالمشاعر و التاريخ».. ويضيف نص الدعوى ما نصه «إن قرار البناء مخالف لمثال التهيئة التي تجاوزت فيها كل البناءات الارتفاع المخول لها قانونا كما تجاوزت فيها نسبة المساحة المرخصة قانونا الأمر الذي جعل المنطقة تختنق مروريا مما يحتم عدم الزيادة في إقامة البنايات وضرورة بناء المأوى والمناطق الخضراء التي خلت منها المنطقة خلافا لما تفرضه قوانين البيئة و العمران». نص الدعوى تضمن العديد من الطلبات منها بالخصوص تكليف أحد الخبراء لمعاينة موقع البناية والتأكد من مدى تطابق الرخصة مع الشروط القانونية والموضوعية وإلغاء قرار البلدية في منح رخصة البناء وغيرها من الطلبات التي بلغت مرحلة مصاريف التقاضي وتغريم الخصمين الأولين أي البلدية و شركة تهيئة صفاقسالجديدة.. المطالبون بالتراجع عن البناء في التقسيم عدد 23 من باب الجبلي ضيقوا الخناق على خصومهم بمراسلة كل الجهات المعنية بما فيها البلدية بمطالب جاءت في شكل التماس تجاوزا فيها البعد القانوني ليتحدثوا بلغة المشاعر مقترحين أن تصبح المنطقة مساحة تنزه للمواطنين مع إقامة مأوى للسيارات مبينين أن هذه المقترحات من شأنها وان تبرز المكونات الحضارية لجهة صفاقس وتضفي عليها جمالية و تخلق متنفسا و منتزها لزائري الجهة .. قضية التقسيم عدد 23 أو قضية جامع سيدي اللخمي كما عرفت شعبيا بصفاقس مازالت تراوح نفسها، لكن وبشكل استباقي انطلقت الشركة أول أمس الاثنين في الحفر استعدادا للبناء، لكن التاريخ عارض بشدة فبداية الحفر أبرزت هياكل عظمية مع عدد هام من الفسقيات التي تعود للعهد الأغلبي، كما كشفت الحضائر عن 3 قنابل تعود للحربين العالميتين وهو ما استوجب إيقاف الأشغال بصفة مبدئية .. والسؤال المطروح هل أن التاريخ أنصف أصحاب الشكاوى؟ أم أن التاريخ أنصف الولي الصالح سيدي اللخمي كما يردد بعض المؤمنين بالخرافة؟ ..نكتفي بطرح هذه الأسئلة و نتركها معلقة في انتظار القول الفصل للعدالة في هذه القضية التي عدت سابقة من نوعها في قضائنا التونسي..