الكيلاني بن منصور أستاذ باحث ماجستير الأدب [email protected] رجل من طراز نادر وعيار ثقيل، له في العلم والثقاقة العربية قامة مديدة وقدم راسخة، عالم حقق الاشعاع للعرب، وساهم في إثبات ثراء الحضارة العربية الاسلامية التي نحتت واقعا إنسانيا لم يتوفر خارج أطرها، رجل تحدى فقد البصر بكل صدق، فقرر ان لا يقف عند أبواب المقابر منتظرا جثامين الموتى كي يجلجل على مسامع الحزاني والثكالى بطريقة تجعلهم يهبون له بعض القروش الهزيلة. مبدع ومبتكر أضاف للدراسات الجامعية تخصصا لم يسبقه اليه أحد. كاتب تهافتت الدول على ترجمة كتبه الى الفرنسية والاسبانية والانقليزية والهندية وغيرها من اللغات. وقررت كبرى الجامعات في اسبانيا والهند ان تكون أبحاثه مراجع معتمدة في الشعب الجامعية بها. هو مكفوف قرر ان يكسر العصا البيضاء ويحطم النظارات السوداء، ليشهر عصا العلم والثقافة والأدب والحضارة، وعدسة الحقيقة القائلة بأن حضارتنا العربية الاسلامية هي أعظم مليون مرة مما نعتقد. رجل يكره ان يستمع الى صوت الشاعر وهو يبكي قائلا: أماه ما شكل السماء وما الضياء وما القمر / بجماله تتحدثون ولا أرى منه الأثر / عكازتي هي ناضري، هل الى سواه من مفر/ يجري الصغار ويرتعون أنا في عقر بيتي مستقر /. إنه الدكتور عبد الحميد يونس رائد الدراسات الفلكلورية والادب الشعبي في العالم العربي كله، هو كما يلقبونه في مصر «طه حسين الصغير» وسأسميه هنا في تونس «طه حسين الكبير» انه حجتي الدامغة التي أشهرها في وجوه كل أولائك الذين لا يرون في المكفوفين الا بوابات لمشاريع تسول مربح. السجل الشخصي لعبد الحميد يونس وُلد في 4 فيفري 1910 في منطقة السيدة زينب بالقاهرة، فقد عبد الحميد يونس بصره في سن السادسة عشرة، حصل على شهادة الباكالوريا عام 1932، فأراد الالتحاق بكلية الآداب، غير انه واجه صعوبات ورُفض بسبب اعاقته ثم قدم أوراقه مرة أخرى الى عميد الادب العربي د. طه حسين والذي كان عميدا لكلية الآداب قسم لغة عربية في ذلك الوقت، وهو من ساعده بالالتحاق بنفس القسم بالكلية الىان حصل على الليسانس عام 1940. ظهرت موهبة د. عبد الحميد يونس الادبية في الكتابة، مع تصاعد الاحداث السياسية عام 1919، وخلال دراسته الجامعية عمل صحفيا بمجلتي «الرسالة» و«المجلة»،وبعد تخرجه أسس مجلة «الراوي».واصل يونس دراسته الجامعية فحصل على الماجسيتر عن رسالة بعنوان «سيرة الظاهر بيبرس»، سنة 1948. ونظرا لاهتمامه بالكتابة عن الفولكلور المصري والعربي، كانت رسالته والتي حصل بها على الدكتوراه تتناول سيرة الهلالي بعنوان «الهلالي في الادب والتاريخ»، سنة 1950 وعلى اثرها أصبح أستاذا للأدب الشعبي في عام 1958. ومن أهم أنشطته نذكر أنه عمل بالصحافة حيث كتب في المجلة الجديدة مجلة المصري جريدة البلاغ اليومية جريدة المساء. وقد أصدر مجلة «الراوي الجديد» وكان رئيسا لتحريرها عام 1935. وعين وكيلا لإدارة السجل الثقافية عام 1946. كان مدرسا مساعدا بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1947. تدرج في سلك هيئة التدريس حتى وصل الى درجة أستاذ كرسي الأدب الشعبي بكلية الآداب، جامعة القاهرة. وقد رأس تحرير مجلة الفنون الشعبية 1964. وانتدب للتدريس في معهد السينما، نوفمبر 1965. وقد عين رئيسا لتحرير مجلة العربي ديسمبر 1965 انتدب وكيلا لوزارة الثقافة لشؤون الثقافة الجماهيرية في شهر جويلية من سنة 1966، انتدب للعمل مستشارا فنيا لوزير الثقافة الى جانب عمله الأصلي كأستاذ للأدب الشعبي بكلية الآداب، جامعة القاهرة، سنة 1969، وعين رئيسا لمجلس ادارة مركز الفنون ومشرفا على مركز دراسات الفنون الشعبية، اكتوبر 1978، ولعل أهم معلومات تتصل بحياة هذا العالم الكفيف أنه أضاف للثقافة العربية الاسلامية والعالمية أيضا أربعين مؤلفا تتناول الفولكلور المصري والعربي، الى جانب موسوعة أدبية تمتد على 700 صفحة تمت ترجمتها الى الانڤليزية، والفرنسية، والاسبانية، واليابانية... وأصبحت موضوعا دراسيا لأقسام الأدب في الجامعات الهندية، والأمريكية، والسويدية، وقد ساهم الدكتور عبد الحميد يونس في انشاء العديد من المراكز الادبية في كثير من الدول العربية، وتقديرا لدوره تم انتخابه رئيسا للمجلس العربي للأدب الشعبي، يعود الفضل اليه في تأسيس مركز دراسات الفنون الشعبية الذي يقوم بالعمل الميداني والتسجيلي والتصنيف والدراسة. وهو أول من دعا وأنشأ مجلة الفنون الشعبية ورأس تحريرها، ودعا ونفذ «السجل الثقافي» الذي يجمع وجوه النشاط في مصر، وكان من أوائل الذين اقترحوا تحويل الادارة الثقافية في جامعة الدول العربية الى منظمة للتربية والثقافة والعلوم في اطار الجامعة العربية، والمهم هو أنه ارتبط ارتباطا وثيقا بالصحافة، فقد أسهم مع المرحوم سلامة موسى في تحرير «المجلة الجديدة» و«مجلة المصري» ولم يقتصر عمله على المقال أو الترجمة أو القصة، ولكنه كان يشرف على بعض الأبواب الرئيسية في هاتين المجلتين. ونشر الكثير من الفصول والدراسات في عدد من المجلات والصحف وخاصة في مجلة الكفيف العربي التي كان نائبا لرئيس تحريرها المرحوم صلاح الدين حسني مخيمر، وقد كان من المؤسسين لجمعية النور للمكفوفين حتى أصبح رئيسا لها، كما أسهم في انشاء المركز النموذجي للمكفوفين وجمعية النور والأمل للكفيفات. وقد وقع تكريمه من قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومن الرئيس أنور السادات، كما منح جائزة الدولة التشجيعية وجائزة الدولة التقديرية والدكتوراه الفخرية، وحين غيب الردى المحتوم الدكتور عبد الحميد يونس سنة 1989. عجز الموت أن يجعلنا ننساه، فقد بقيت آثاره خالدة دالة عليه، ولعمري هؤلاء هم الدكاترة المكفوفون الحقيقيون الذين يصنعون شهائدهم العليا بالانتاج والعمل، فالمكانة العلمية تتحقق بالاضافة الملموسة للبحث العلمي عموما، والى جانب ذلك يمكن للدكتور المنتج أن يلعب أدوارا اجتماعية جمعوية متصلة بإخوانه المكفوفين لأن العمل الجمعوي متاح لجميع المتطوعين وليس شرطه الحصول على الدكتوراه، على خلاف البحث العلمي الصحيح الذي لا يتسنى الا للعلماء الكبار من ذوي شهائد الدكتوراه ، فتكون الاعمال الجمعياتية للباحث والدكتور مكملة لنشاطه الرئيسي في الميدان الأكاديمي، وهو ما فعله عبد الحميد يونس فقد كان عضو وفد مصر في مؤتمر الادباء العرب بالكويت، 1958 ومثل مصر في المجلس العالمي للمكفوفين في هانوفر بألمانيا الغربية وانتخبه أعضاء المنظمة العربية للعلوم والثقافة رئيسا لحلقتها الدراسية المنعقدة بالجامعة العربية لمناقشة العناصر المشتركة في المأثورات الشعبية وتنسيق وتوحيد الجهود لدراستها في أكتوبر 1971، وشارك ببحث في مؤتمر جمعية الفولكلور الآسيوي ومعهد الفولكلور بجامعة أنديانا بالولايات المتحدةالأمريكية عن «الفولكلور العربي وعلاقته بالفولكلور الآسيوي الافريقي»، انه العيار الثقيل من المكفوفين العباقرة الذين خلدهم التاريخ وسوف تذكرهم الاجيال في كل حقبة، ستقول الملايين هذا الدكتور المكفوف اضاف لأمته ووطنه علما نافعا وحقق اشعاعا بحثيا أصيلا، ولن تذكر الأجيال من وقف على أبواب المقابر ولا من ركب القطار وهو يسير دون أن يقتطع تذكرة السفر، لن يخلد ذكراه تاريخ الانسانية وغربالها الدقيق حتى وان لم يتفطن اليه مراقب التذاكر أو تجاهل تسلله الى العربة، ألم يقل سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. مؤلفات «طه حسين الكبير» عبد الحميد يونس تنقسم كتب الدكتور عبد الحميد يونس الى كتب ترجمها وكتب قام بتأليفها. ودار الكتب الوطنية التونسية تمتلك رصيدا هاما من كتبه وتنقصها عناوين أخرى حسب الفهرس الالكتروني. فمن أشهر كتب أستاذي الدكتور يونس أذكر الازهر، بالاشتراك مع الاستاذ عثمان توفيق، القاهرة، 1946. الهلالية في التاريخ والادب الشعبي، مطبوعات جامعة القاهرة، 1954. الاسس الفنية للنقد الادبي، القاهرة، 1958. الظاهر بيبرس، القاهرة، 1959. خيال الظل، القاهرة، 1960. الحكاية الشعبية، القاهرة، 1961. دفاع عن الفلكلور. التراث الشعبي، القاهرة، 1979. أما الكتب التي قام بترجمتها فنذكر منها على سبيل المثال: دائرة المعارف الاسلامية التي أسسها مع ثلاثة من زملائه، عام 1934. الزواج، تأليف إدوارد وستر مارك، القاهرة، 1931. فلسفة الجمال، تأليف كارت، القاهرة، 1945. عالم الغد، القاهرة، 1946. صائد الغزلان، قصة، القاهرة، 1954. العاصمة، تأليف وليام شكسبير، القاهرة، 1960. رحلة في عالم النور. وإن لم تقم مصادرنا بالاشارة الصحيحة لكتاب رحلة في عالم النور الذي ترجمه الدكتور عبد الحميد يونس عن اللغة الانقليزية فيمكنني التأكيد حسب الابحاث التي أجريتها في دار الكتب الوطنية التونسية ومن خلال الحوارات التي قمت بها مع الاستاذ الجليل محمد الراجحي فإن لهذا الكتاب بالذات قصة لابد من عرضها لانها ذات معنى ولها صداها في النخب المثقفة من المكفوفين التونسيين خلال عقد الخمسينات والستينات من القرن الراحل. ويمكن الاشارة العابرة أن من الذين تحدثوا بمستويات متفاوتة عن قصة هذا الكتاب هم يوسف المؤذن وأحمد الحمداني ومجلة وفاء التي صدرت في تونس خلال نهاية الستينات وبداية السبعينات. وللاسف لم أجد نسخة أصلية منه في المكتبة الوطنية التونسية، ولكن يبدو حسب ما لديّ من معلومات أن مكتبة الاستاذ محمد الراجحي بها نسخة أصلية منه فهو فيما يبدو قد جلب منه نسخا الى تونس سوف تفيدنا كثيرا في استكمال هذا البحث العلمي والتاريخي.