ألقى التصعيد الذي شهدته تركيا خلال الأيام الماضية عبر تكثيف حزب العمال الكردستاني من عملياته ضد الجيش التركي بظلاله على القضية الكردية التي تعد واحدة من أهم وأعقد المشاكل التي تواجه أنقرة، إذ لم تنجح الحكومات التي تعاقبت على السلطة في إيجاد حلول تلبي مطالب الأكراد ممثلين في حزب العمال الكردستاني الذي كان مطلبه الأساسي إقامة دولة كردية مستقلة لكنه عاد عن هذا المطلب بعد اعتقال زعيمه عبد اللّه أوجلان عام 1999.. أوجلان ومن معه بدأوا الحديث عما يشبه الاتحاد الكنفدرالي بين الأتراك والأكراد من خلال الاعتراف بالشعب الكردي وضمان كامل حقوقه، وإعداد دستور جديد للبلاد لكن هذه المطالب لا تجد قبولا لدى الكثير من الأوساط التركية التي ترى في الحزب منظمة انفصالية تعمل لخدمة مصالح قوى أجنبية، فماذا يريد الأكراد، فما هي الجهات التي تقف وراء مطالبهم وتحرّكاتهم؟ إعداد: محمد علي خليفة وقبل الإجابة عن هذه التساؤلات وجب التذكير ببعض المعطيات والخلفيات، فحسب الاحصاءات الرسمية يتراوح عدد أكراد تركيا بين 15 و20 مليون نسمة، وهو عدد يمثل نسبة سكانية معتبرة من حيث الحجم قياسا بتعداد أكراد إيران والعراق وسوريا. كما أن أكراد تركيا لا يتمتعون بالحكم الذاتي على غرار أكراد العراق، وبالإضافة إلى ذلك فإن تركيا لم تعمل بالحل العراقي وذلك باعطاء الحكم الذاتي لأكرادها لتسيير شؤونهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، فالقيادات التركية اعتقدت أن اعتقال عبد اللّه أوجلان كفيل بحل المشكلة وطيّ ملفها، لكن هذا الاعتقاد ليس صحيحا كما أثبتت التجربة. حرب أم إرهاب؟ الخلافات في وجهات النظر بين الأتراك والأكراد لا تقتصر فقط على القضايا الحساسة المتعلقة بالحقوق والمطالب بل تصل إلى المسميات والمصطلحات، فالأتراك مثلا لا يستخدمون كلمة كردستان على الاطلاق وإنما عندما يتحدثون عن حزب العمال الكردستاني يستخدمون الأحرف الثلاثة المختصرة للحزب (ب ك ك) (PKK) على عكس الأتراك الذين يصرون على استخدام كلمة كردستان. لكن الخلاف الأهم والذي يثير جدلا واسعا في البلاد، وقد تزايد في الفترة الأخيرة مع التصعيد العملياتي الذي بدأه الحزب، هو عما إذا كانت العمليات التي يقوم بها المسلحون الأكراد حربا أم ارهابا. فالأكراد من وجهة نظرهم يعتبرون ما يحدث حربا ويصرون على استخدام هذا المصطلح الذي يزعج الأتراك خصوصا عندما يتحدث به نواب حزب السلام والديمقراطية ذي التوجه الكردي داخل البرلمان، ويدعون إلى وقف متبادل لاطلاق النار ويحملون الحكومة التركية مسؤولية التصعيد الأخير لأنها لم تتجاوب حسب رأيهم مع الهدنة التي كان أعلن عنها حزب العمال الكردستاني من جانب واحد وانتهت مطلع الشهر الجاري. أما الأتراك فلا يرون في الحزب إلا منظمة ارهابية لا تمثل شيئا في المجتمع الكردي ويرفضون بشكل قاطع التفاوض معها ويطالبون بضرورة أن يتخلى الحزب عن السلاح وإخلاء مواقعه في الجبال ويسلّم عناصره أنفسهم للسلطات التركية. وبين هذا الرأي وذاك يمكن القول ان حزب العمال الكردستاني هو أكبر وأقوى المنظمات غير الشرعية في تركيا، ووفق التقارير يضم هذا الحزب بين 5 آلاف و7 آلاف مقاتل يوجدون في معسكرات شمالي العراق فيما يتخذ بقية المسلحين من الجبال جنوب شرق تركيا مواقع لهم. وإضافة إلى الوجود العسكري ينشط أعضاء وأنصار الحزب خاصة في الدول الأوروبية في مجالات مختلفة سياسية وإعلامية واجتماعية. واستنادا إلى هذه المعطيات يمكن القول إن عدم ايجاد حل جذري وواقعي للمشكل الكردي سواء في إطار شكل الحكم الذاتي أو في إطار المشاركة الفعلية في الحكم مع ضمان الاعتراف تطبيقيا بالحقوق الكاملة وبالهوية الكردية بأبعادها الثقافية واللغوية أمر يقف حجر عثرة دون حصول التسوية السلمية. من يحرّكهم ؟ خلال الأيام الماضية أشار بعض المسؤولين الأتراك إلى أن الحوادث التي وقعت الأسبوع المنقضي وقتل جراءها 15 جنديا تركيا، وهي حصيلة لم يعرفها الجيش منذ سنوات، قد تمت بسبب تحريك الأيادي الخارجية لهذا الحزب لزعزعة الأمن الوطني التركي وقصد تصفية الحسابات. ويبدو واضحا أن الجهة الخارجية المتورطة قد تكون اسرائيل بدعم من اللوبي الصهيوني المتنفذ في الادارة الأمريكية وفي صفوف الجيش الأمريكي أيضا المنتشر في العراق المحتل. ووفقا للقوانين الدولية فإن الولاياتالمتحدة هي المسؤولة المباشرة عن أي تحرك لعناصر من حزب العمال الكردستاني من كردستان العراق لتنفيذ عمليات في العمق التركي، وهذا يعني أن دعوة أنقرة قبل أيام من إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن تساعدها في محاربة العناصر الكردية المسلحة يمكن فهمها ضمنيا على أنها دعوة لها لتردع إسرائيل والجهات التي تحرّك الصراع داخل الأراضي التركية. وهناك تحليلات أخرى تشير إلى إمكانية تورط المخابرات الاسرائيلية في تحريك العناصر الكردية ضد تركيا، وتؤسس هذه التحليلات حججها على خلفية الصدام السياسي التركي الاسرائيلي الأخير الذي فجرته حادثة اعتداء الجيش الاسرائيلي في عمق البحر الأبيض المتوسط، وتحديدا في المياه الدولية على احدى سفن أسطول الحرية التي قتل جراءها عدد من المواطنين الأتراك. ويرى أصحاب هذه التحليلات ان اسرائيل تريد ان تستعمل ورقة الأكراد من وراء الستار لتضغط على حكومة أردوغان لابعادها عن القضية الفلسطينية بشكل عام، وعن قضية حصار غزة بشكل خاص. ولا شك ان التحركات التركية ازاء ايران وملفها النووي تقلق كلا من أمريكا وإسرائيل، كما أن العلاقات السورية التركية المتميزة تعد اسرائيليا بمثابة موقف مناهض لها وعلى هذا الأساس فإن تركيا تعتبر التدخلات الخارجية العامل الأساسي الذي يهدد أمنها واستقرارها، ويحتمل أن تكون اسرائيل هي هذا الذي يمارس التدخل بشكل غير مباشر، وبدعم أمريكي من تحت الطاولة. وربما لهذه الاعتبارات جاءت القرارات الصادرة عن مجلس الأمن القومي التركي الذي انعقد يوم الجمعة الماضي حازمة وحاسمة وأكدت أنه لا تنازل ولا تراجع بشأن مكافحة الارهاب وعناصره التي تهدد أمن الدولة، وذلك إلى أن يتم تصفية الارهاب نهائيا من تركيا. وهكذا تبدو أنقرة واعية بمدى الخطر الذي تثيره المسألة الكردية داخليا وخارجيا وتبدو أيضا ماضية في اتباع سياسة القبضة الحديدية لتسوية هذه القضية.