أمر نادر وعسير ان تصادف موهبة صادقة تستطيع ان ان ترج كيان الرسم من الجذور وتتجاوز لما هو غير مسبوق. وها هي الرسامة «نائلة مسلم» في توجهها المخصوص بالورد، تعد بانفتاحات جمالية، قد تضفي على الحركة التشكيلية بتونس اشراقات جديدة في التكوين والتلوين تكشف عن طاقة أخلاقية هي بمثابة العمود الفقري للتوازن المطلوب. تنبثق هذه القيم، وبالاحرى تشع من ذات الرسامة، لتنبسط فتنعكس على الظلال الملونة بأرهاط الزهور (قرنفل، أقحوان، ياسمين، نرجس...) وهي من الاشياء المحسوسة، على اعتبارها شحنة عواطف، تجهد ان تطوعها قالب اللياقة. وأحيانا ينقلب ظهر المعادلة المتعارف عليها فنيا، من حيث لا تشعر «نائلة» بالبعد الذي تحدثه للبصيرة، حين تجعل من القاعدة فضاء حالم الزرقة، يعتمد أسلوب التنميش وأما أفق النظر، فترصعه بأصباغ لا تدري انها تخاطب الكواكب، وبالتالي يمتزج فيها التوحيد وكراماته المستمدة من مباهج العقيدة. وقليلا ما تخرج من صمتها لتروي على العين أشجان هواها، كفسحة محدودة هي في حكم الاقدار بمختلف ظروفها. أقصد ان اي رسامة لا تقدر ان تتكلم للجميع كزعيمة لها أتباع على الارض. حسبها التقنية السليمة، ومن ثمة الاستسلام لأهواء اللون، بما تراه العقول، وتقول به تعاليم الشكل من هندسة للمساحة، وعمق فكري يقرب البعيد، ويركز معطى اتناسب لمتعة التلقي والقبول، حتى وإن كان قطف الحركة مأساوي الوضع اي كئيبا سيما وان الاضداد من المكونات الاولى ما يهم، هو كيفية صياغتها، إن كان لابد للفن من صدمات. وأكرر في هذا السياق ان المنهج التشخيصي باق على الدوام، بوصفه أداة جيدة من أدوات المقارنة وذلك للتعرف على الصحيح من السقيم، في مسار نقدي يزيح الجمود، مجددا بنية التناظر حين يتخالف ولا يتآلف على وجه التقابل، وإن هي الا طرق من طرائق الاحتكام الى معايير الصناعة مهما تفككت اوصال الصورة وتطورت منجزاتها التقنية. تعي الرسامة جيدا، ان الضوء بصفاء درجاته وتأثيره النافذ على سطوح الرياحين وأحجام الفواكه، شيء منفلت على الدوام، تلزمه الدربة، ومن بعد يمكن اقتناصه وتقييده باللطافة المطلوبة وهو الوقت الذي أنت فيه، لا يلتف الى كل عابر وجميل تفخر به الفصول الاربعة (موضوع بحثها). وأغلب الظن ان نائلة، بدأت تهتدي الى الينابيع وتميز بين درجاتها المتفاوتة لتجتني بذلك الاختبار، ثراء تقنيا في شأن الاضاءة، وهي المنتقلة من مناخ بحري (وتحديدا أبهى المدن المتوسطية سليمان مسقط رأسها بالوطن القبلي) الى فراغ صحراوي مليء بالذبذبات والشذرات الذهبية الشفافة. حيث لا يخلو عمل من ملاحظات تصيبه، لأن المرء ما عاش في تجريب. على صعيد الطبيعة الصامتة، لايزال موضوع الورد هاجسا يتأمل فيه الرسم أسراره هذا ان كان يفضي الى رائحة ذكية التركيب قد يبعثها التصوير كاشفا عن شيء من براءة الطبيعة منذ ان كانت طفلة ملطخة الاصابع بزينة اقلامها الاولى. وإن هي، اي العملية الابداعية الا اشراقات، تبثها النفس حالكة الشعور أحيانا. مما يدل على ان المناهج التعليمية مهما اشتد خطها المستقيم قسوة، فإنه يتعذر عليها ان تخلق موهوبين حسب مقاسها وهي بالتأكيد، فاقدة للحس الروحاني الجميل، اذ به يمكن ان تسمو طروحاتها الى سمة انسانية يحتاجها الفن فهي الماء النسغ الذي يجري في شرايين الحياة بشيء من الحياء المغربي، هو بدوره عنصر فني يكنز الحب كقيمة تقف ضد الجنون، وندا للتفوق وهل أطيب من أمنيات رسامة تقدم لنا بإرادتها الواثقة، وجودا يرشح نداه بدلا من الزوابع الداهمة على سطح الأديم تاريخيا، نقرأ من تأملاتنا في مدونة الرسم العالمي، ان فنون تصفيف الورد، قد اكتسبت رؤية ذهنية مع الفرنسي أوديون رودون Odillon Redon عند نهاية القرن التاسع عشر الذي كشف بالتوازي مع التطور العلمي، عن عين ثالثة تحدق في المشهد الطري، وأصوات متلاطمة الصباغ تأتي من اللامرئي. قدمت اشكالا حديثة، ستقتصر لاحقا على أخلاط اللون ومعجوناته، دون تعسف يشوه بالتشبيه فطرة المروج والوديان. في حين غيرت باقات الورود الحمر والنسرين مواقعها داخل رسومات الزجاج الملون بالمملكة التونسية في عهد الصادق باي، وأضحت موضوعا رئيسيا يتصدر اللوح البلوري بتصوير خطي حروفي يصور هيئات الآنية والقوارير العثمانية الطراز بإمضاء محمود الفرياني وحرمه السيدة. هكذا تعطلت المقاييس الاكاديمية لتغير من دروسها التربوية. وقد صار بالامكان تجسيم المزارع المزدانة في لمسة دهن زيتي، تستبطن الزوال والازل معا. يشغلها التناسق والانسجام من منظور تجريدي لا يتكرر لأنه حال في الوقت على المبدعة ان تستثمره الآن سبق ان سلكت الفنانة صوفية فرحات في اقامة هذا الرسم سبيلا، جرت على وتيرته طبقة من الاتباع مثل محرزية غضاب وريم القروي واسماء منور في بداياتهن دون ان نغفل الرسامة الفرنسية المقيمة بتونس والمتخصصة في تنضيد الازاهير كارولين دوغرواسال Caroline DeGroisselle. وما أحوج الساحة الى تزايد الرسامات في مؤازرتهن للمحن والآفات التي ألمت بمباهج الطبيعة المنخرمة في يوم الناس هذا. ببساطة المرأة الحاذقة تفسر لنا نائلة كيف نوقد شمعة ولا نصب جام غضبنا على الظلام. لأن من ورائه أكاليل تتجلى وهالات تزيد الورد غموضا وغرابة لون.