قليلون هم الذين يمتلكون القدرة على تحليل الأمور وفهم الأشياء مثل ما يفعل الدكتور محمد الدوري.. فصراحة الرجل ونزاهته ووطنيته واستقلاليته فضلا عن تكوينه السياسي والأكاديمي والقانوني كلها صفات اجتمعت في شخصية واحدة.. شخصية آثرت الولاء للوطن والثبات على نهج الممانعة.. كلمته الشهيرة «انتهت اللعبة» (The game is over) التي أطلقها مدوية في الأممالمتحدة يوم التاسع من أفريل من عام 2003 تاريخ احتلال بغداد.. لا تزال تشكل «شهادة» يستدلّ بها الكثيرون في تحليل وفهم حقيقة ما دبّر للعراق بليل.. نعم سقطت اللعبة في الأممالمتحدة ذات تاسع من أفريل لكن ها أن الدكتور محمد الدوري الذي كان آخر مندوب للعراق في الأممالمتحدة في عهد الرئيس الشهيد صدام حسين، يؤكد ل«الشروق» أن هناك لعبة أكبر وأخطر تجري في العراق اليوم.. لعبة يقول الدوري إنها استعمارية بامتياز عنوانها الرئيسي القتل والكذب والابتزاز وهدفها تمزيق العراق وشطب وحدته إلى الأبد.. في هذا الحديث الخاص ل«الشروق» كشف الدكتور محمد الدوري عن حقيقة وطبيعة ما يجري وعن تصوّره لمستقبل العراق في ظلّ تصاعد النفوذ الإيراني والحديث عن قرب الانسحاب الأمريكي والغياب العربي: وفي ما يلي هذا الحوار: ٭ كيف تفسّرون العودة اللافتة للتفجيرات في العراق.. نحو 8 سنوات من الاحتلال.. ولا يزال الدم يسيل بغزارة.. ما الذي يجري دكتور محمد؟ في الحقيقة أن هذه التفجيرات لا تختلف عن سابقاتها التي شهدها العراق منذ الغزو.. فهي جزء من طبيعة النظام الاحتلالي الذي يقبض على السلطة في العراق منذ بداية الاحتلال بمعنى أن الاحتلال والنظام التابع له هما وراء كل هذه الفوضى.. أو أنهما السبب المباشر في هذه التفجيرات كون الاحتلال مازال جاثما وكون هؤلاء يمثلون الاحتلال بكل جوانبه الثقافية والفكرية والعسكرية وبالتالي فإن مصيرهم مربوط بمصير الاحتلال. ٭ إذا كان الأمر بهذه الصورة التي ترسمونها.. كيف نفهم إذن كل ذلك الجدل الدائر حول تشكيل الحكومة.. وكيف تفسرون كل تلك المواقف التي تقول بأن الحكومة هي المخرج الأساسي من هذا الوضع القائم في العراق؟ أنا في الحقيقة لا أسميها أزمة بل هي فذلكة أو لعبة سياسية كثيرا ما يلعبها المستعمرون وأذنابهم الذين يحاولون أن يعطوا صورة ديمقراطية بسبب تكاتف بنادق اللعبة التي أسميها لعبة شطرنج محسوبة لغرض إعطاء انطباع للرأي العام العالمي بأن هناك حكومة تعمل في العراق لمصحلة الشعب العراقي.. والقصد الأساسي من هذه اللعبة عضّ الأصابع لغرض الاستحواذ على السلطة.. هذه الحكومة لا تعبّر عن واقع ديمقراطي وتعبّر عن ملهاة ومأساة اسمها مأساة العراق بثوب وسخ مليء بالجراثيم.. إنها لعبة تراجيدية. ٭ توصّفون ما يجري في العراق بأنه لعبة.. فهل معنى هذا أن اللعبة لم تنته بعد على عكس ما جاء في كلمتكم الشهيرة التي أطلقتموها في الأممالمتحدة يوم احتلال بغداد؟ لا.. اللعبة التي قصدتها حينها هي لعبة مجلس الأمن.. هذه اللعبة فعلا انتهت لكن هناك لعبة أخرى لا تزال مستمرة اليوم.. صحيح أن هؤلاء اللاعبين ومن وراءهم خلف الستار هم نفس اللاعبين ولكن هناك لعبة جارية لمحاولة السيطرة والابتزاز على حساب حياة الشعب العراقي.. ٭ من المتوقع أن يجتمع مجلس الأمن يوم الاربعاء القادم وسط توقعات بأن يقرّر تعيين حاكم مدني جديد في العراق، كيف تنظرون إلى مثل هذه الخطوة المحتملة من حيث أبعادها القانونية وتداعياتها السياسية؟ أنا على عكس ما يذهب إليه الشقّ الآخر، أرى أن هذه الفكرة إن تحققت فعلا ستكون مهمّة ومفيدة.. أنا اليوم مع اقحام الأممالمتحدة في العراق لأنه حاليا لا يوجد أسوأ مما هو قائم.. الوصاية الدولية في رأيي هي أفضل بكثير من الوصاية الأمريكية التي استفردت بالعراق ودمّرته وأبادت شعبه.. ٭ لكن الحديث دكتور يدور هنا عن تعيين حاكم مدني أمريكي وبإيعاز من أمريكا.. فهل تتصوّر أن ذلك سيغيّر الوضع في العراق خاصة أن تجربة بريمر تؤكد هذه الحقيقة؟ صحيح ان مثل هذا القرار ستكون وراءه الولاياتالمتحدة بهدف التخفيف من وطأة المأزق الأمني والسياسي الذي تتخبّط فيه.. لكن أنا أسأل.. هل الحكام الموجودون في العراق اليوم هم ليسوا حكاما وممثلين للولايات المتحدة؟.. وبالتالي أنا أرى أن إدخال الأممالمتحدة في الملف العراقي سيؤدي على الأقل إلى دستور جديد.. وانتخابات جديدة وبعض الاصلاحات الأخرى بعد ثماني سنوات من الموت والجور والظلم الأمريكي في العراق.. حكام العراق اليوم هو أسوأ من بريمر رغم أنهم ورثة بريمر الشرعيين. ٭ في هذه الحالة كيف تحلّلون الحديث الأمريكي المتواتر عن انسحاب أمريكي وشيك من العراق.. وكيف ترون مستقبل العراق في ضوء هذه الخطوة المرتقبة؟ الذي يجري أن الولاياتالمتحدة لديها أكثر من مشكل في آن واحد.. وهي تتخبّط في مأزق قاتل.. هي لديها الملف الأفغاني حيث لديها قرار للنصر في أفغانستان ولكن هذا النصر مستحيل.. في العراق هناك اليوم مواعيد للانسحاب ولكن هذا الانسحاب سيفضي إلى بقاء 150 ألف جندي أمريكي.. وهناك ما يشير إلى أن الولاياتالمتحدة ستبقي في العراق 50 ألف جندي.. وهذا ليس بالعدد الهيّن.. هذا حال العراق اليوم.. إنه على شفا حفرة من التقسيم.. الولاياتالمتحدة تعمل اليوم فعلا على تنفيذ هذا المخطط المشؤوم.. هي تريد تقسيم العراق وإنهاءه إلى الأبد أو إبقاءه ضعيفا وجسدا منهكا وهزيلا.. وفي كل هذه الحالات سيكون الشعب العراقي هو الخاسر الوحيد في هذه اللعبة.. وهذه اللعبة لا يمكن أن تنتهي.. وإن انتهت فإنها لن تقف عند تراجيديا التقسيم الذي بتنا قريبين جدّا منه. ٭ التصعيد الأخير في الملف النووي الايراني إلى أي مدى يمكن أن يعقّد الأمور في العراق.. أسأل هنا عما إذا كانت هذه الأزمة تجرى على حساب العراق؟ بالتأكيد هناك تقاطع في المصالح بين الولاياتالمتحدةوإيران بعد أن كانت هذه العلاقة متطابقة وبعد أن كان الطرفان متفقين على تدمير العراق ولكن هذه المصالح لا يمكن أن تستمر إلى الأبد فسرعان ما تظهر على السطح.. الآن يوجد موطئ قدم عسكري أمريكي في العراق.. الولاياتالمتحدة لا يهمّها أن تحصل إيران على موطئ قدم.. هي لا تريد أن تجعل من العراق وسيلة للضغط على البرنامج النووي الايراني.. أمريكا وإيران يصلان إلى حافة الهاوية ولكنهما لا يصلان إلى الحرب.. وإنما هناك لعبة شدّ الحبل.. وإيران في حقيقة الأمر أصبحت اليوم عنصرا مؤثرا في المنطقة بما أن الدول العربية غائبة ولا تأثير لها في ما يجري بالعراق وبالمنطقة عموما. ٭ وسط هذا المشهد بتعقيداته وتشعباته الأمنية والسياسية التي كما تفضّلتهم ينسج خيوطها لاعبون كثّر أين المقاومة مما يحدث اليوم؟ المقاومة ايا كان الحديث عنها فإنها بريئة من قتل المواطنين الأبرياء.. المقاومة التي توجّه ضرباتها إلى حيث يجب أن تتوجه الأهداف الصحيحة.. أما ما عدا ذلك فإن أي اعتداءات تستهدف الزوار والمساجد والتجمعات في الأسواق هي جريمة بحق الإنسانية.. المقاومة مكانها معروف وهي تقضّ مضاجع الاحتلال بشكل يومي وتلقنهم دروسا في القتال وفي الدفاع عن كرامة الشعب العراقي.. ٭ من الذي يقف إذن وراء مثل هذه التفجيرات دكتور برأيكم؟ هذه الجرائم أصحابها معروفون.. وهي بالتأكيد من صنع الاحتلال وحكومته العميلة وهي كذلك من صنع إسرائيل والأكراد بدورهم متورطون كثيرا في هذا الموضوع.. كما أن الأحزاب الطائفية الدينية المتعصبة وغير المتعصّبة ضالعة في قتل العراقيين.