1 اليوم الأول: تدخل مدينة طرابلس القديمة، تسير في ظلال أسوارها على غير هدًى، تتوغّل في أزقّتها وأحيائها ، تتوقّف أمام واجهة خان قديم، تتهجّى، في صمت، ما كُتِبَ عليها من كلمات، ثمّ تواصل طريقك... لم تصطحب أحدا من أصدقائك، أردت أن تمضي إليها دون وسيط، تتوغّل في مسالكها الضيّقة حيث تفقد الشمس سطوتها، ويتخلّى الصيّف عن جبروته. تنشدّ إلى جامع صغير، ينهض بين البيوت أنيقا على بساطته ، جليلا على صغره. تتأمّل الحرف العربي يتحوّل، على أبوابه، إلى مفردةٍ تشكيليّة رائعةٍ هي مزيج من فراشة وورقة عنبٍ وحبّةِ تين. تتذّكر الحروف المغربية التي نحتت قبل ألف سنةٍ فوق مقصورة المعز الصنهاجي في جامع عقبة بالقيروان... تجنح، دون وعي منك، إلى الموازنة والمقارنة، تتمتم: ربّما كان الخطّاط واحدا. تواصل توغّلك في هذا الصّمت، في هذا السّكون، في هذه السكينة، تبصر بائع سجاجيد قد جلس على دكته، يرحب بك، يدعوك إلى مجالسته. ثمّة بسُطٌ من كلّ مكان، لعلّ أجملها تلك التي نسجتها أصابع نساء «غدامس» حيث يتحوّل السجّاد إلى مهرجان من الألوان والأضواء والأصوات... السجّاد، كما تعلّمت من نساء القيروان، ليس مجرّد بِساطٍ، وإنّما هو كتاب ونشيد ولوحة في آن... لهذا يستنفر كلّ الحواس، يستنفر كلّ الجوارح. تواصل سيرك غير عابئ بتزاحم اللاقطات الهوائية تشوّه سحر المكان. في منعطف الطريق تشمّ رائحة القهوة تأتي قويّة، نافذة، عطرة... تلتفت باحثا عن مقهى تجلس فيه ساعة أو بعض ساعة... لا تجد غير المنازل، تنتظم كعقدٍ، بيضاء... صفراء... خضراء تواصل سيرك... تواصله على غير هدى. 2 اليوم الثاني: انعقدت في المركز الثقافي العربي التّونسي الليبي ندوة فكرية انعطفت على دور وسائل الإعلام في دعم العلاقات بين البلدين الشقيقين تونس وليبيا وقد تناول عدد من الكتّاب والصحافيين من البلدين هذا الدّور بالدّراسة والنّظر مبرزين إسهام الكثير من الصحافيين، في كلا البلدين، في تأسيس صحافةٍ ذات أفقٍ مغاربي، نهضت بالدّفاع عن هويّة البلدين والتصدّي للاستعمار الفرنسي والإيطالي... كلّ المتدخّلين أوضحوا أن الصّحافة كانت إحدى الوشائج القوية التي جمعت بين البلدين وأسهمت في تأسيس هويّة ثقافية واحدة. لكنّ المتدخّلين لم يكتفوا بالارتداد إلى الماضي، والعود إلى التّاريخ بل سعوا إلى استقراء المستقبل واقتراح بعض المشاريع «الإعلامية» التي تدعم أواصر القربى وتزكّيها. وفي هذا السيّاق اقترح المتدخّلون تكثيف «البرامج المغاربية» التي تنجزها تلفزات البلدين، فربّما انبثقت منها قناة مغربية تكون تتويجا لجهد إعلامي مشترك استمرّ عقودا طويلة... لكن هذا اللقاء لم يقتصر على الندوة الفكرية بل اشتمل أيضا على أمسيةٍ شعرية شارك فيها عدد من الشعراء التونسيين والليبيين تغنّوا فرادى ومجتمعين بالقيم الكبرى التي لا تكبر ولا تهرم ولا تموت. كان لكلّ صوت نبرته المخصوصة، ولكلّ نصِّ تجربته الكتابية المتميزة بيد أن هناك خيطًا، لا أعرف كنهه، ينتظم كل الأصوات على تباعدها، وكلّ النّصوص على اختلافها. 3 قبل سنوات عديدة قبل سنين عديدة حضر الشّاعر الكبير محمد خليفة التليسي مهرجان ابن رشيق بالقيروان... وقد طلب منّي، منذ حلوله بالمدينة، أن أرافقه إلى ضريح الوليّ الصالح سيدي بوتلّيس، مردفا أنّه متحدّر من سلالة هذا الوليّ القيرواني... اقتنى في الطريق إلى الوليّ شموعًا كثيرة، أوقدها، حالما دخلنا إلى مقام الوليّ، وأحاط بها التابوت، كان يقرأ الفاتحة فيما كان صوت علي البراق يرتفع عاليا من مسجّل قريب. 4 إلى الروائي صلاح الدّين بوجاه يعود فضل نجاح هذا اللقاء، لقاء المثقفين التّونسيين والليبيين، فقد قام بنباهته المعهودة، بالتخطيط لكل الفعاليات، وبتوفير كل ظروف نجاحها... صلاح بوجاه الأكاديمي لم يوجّه هذا اللقاء وجهة أكاديمية باردة بل جعل منه لقاء حميما، مع كلّ ما تنطوي عليه هذه العبارة من معاني المودّة والدفء...