لا تقتصر رائحة رمضان وأجوائه العطرة على السهر مع شاشات التلفاز والتسوق والخروج إلى المقاهي وإنما تتجاوزه عند بعض العائلات القاطنة خصوصا بالأرياف التي ربما تستدعي عزلتها عن ضوضاء المدينة الاستنجاد بالعادات الأصيلة والعودة إلى الماضي العتيق حيث صلة الرحم وحيث لمّة العائلة حول كبيرها ممن يحفظ الأذكار والمدائح وربما تكون له هواية الإنشاد الديني وإقامة الحضرة. وهذه الحضرة ليس بالضرورة أن تقام بمقامات الأولياء الصالحين (عادة في الليلة الفاصلة بين الخميس والجمعة) وإنما يقيمها مثلا بمنازلهم بعض أئمة المساجد من متساكني الأرياف فهؤلاء يجمعون حولهم الأبناء والأحفاد والأقارب والأحباب في مراوحة بين ذكر الأدعية المأثورة وتعليم الصغار بعض الحكايات والوقائع التاريخية زمن الاستعمار والمقاومة وما سبق ذلك من أحداث قد يرويها الكبار للصغار للاعتبار، وقد يجد الحاضر في هذه المجالس لذة الاستماع إلى إيقاعات البندير الحاضر بامتياز والأجدر والأفضل لتنشيط السهرة من أعتى الفرق الموسيقية أما بالمدينة فبنهار رمضان يتخذ الشيوخ من «البطاحي» والمساحات البيضاء وتحت ظلال «الحوانت» القديمة المغلقة فضاءات لممارسة اللعبة الشعبية الأولى عند الهمامة «الخربقة» فهذه اللعبة يعتبرها لاعبوها من الشيوخ المَهرة وسيلة لتمضية الوقت والسيطرة على «حشيشة رمضان» فقد لا يحتمل كبار السن متاعب الصوم ومغبة مفارقتهم «للنفة» التي تنعش مزاجهم. مشاهدة مكثّفة ل«من أيام مليحة» لابن الجهة عبد القادر بالحاج نصر عادة ما ينفر المشاهد التونسي من متابعة القنوات التلفزية الوطنية وذلك ربما لافتقاد هذه التلفزات لما يمثل من أعمال درامية يجد فيها نفسه من خلال تناولها لجملة من مظاهر الحياة الاجتماعية. ولكن ها هو رمضان وكالعادة كل عام ينجح في استقطاب المشاهد التونسي ويعيد أمجاد قنواتنا التلفزية... فحسب استطلاعات الرأي والأرقام والإحصائيات المتعلقة بنسب المشاهدة تمكن العمل الدرامي «من أيام مليحة» على قناة تونس21 من الظفر بمرتبة متقدمة جدا، عمل هندس تفاصيل نصه وكتب حلقاته الروائي عبد القادر بالحاج نصر وهو أصيل معتمدية بئر الحفي (ولاية سيدي بوزيد) فقد تمكن من صنع ربيع الدراما التلفزيونية خلال رمضان وفي أكثر من مناسبة فبعد الحصاد والحمامة والصقيع والريحانة ودروب المواجهة وجمل جنّات يبرز «من أيام مليحة» كهمزة وصل بين المواطن التونسي وبين حياته بمختلف تفاصيلها من معاناة، ألام واحتياجات ظغوطات ومظاهر اجتماعية.. وكأن بالحاج نصر ينطلق من الواقع القريب جدا، قد يكون واقع بئر الحفي الصغيرة في جغرافيتها والمتنوعة في ظواهرها وتركيباتها الاجتماعية.. إذن هو عمل رمضاني اكتسب ميزة خاصة في بيوت وعائلات معتمدية بئر الحفي والحال أن الأهالي على علم بأن وراء نجاح هذا المسلسل رجل من عباقرة الأدب والفكر، ابن بلدتهم لذلك هم يجتمعون حول التلفاز مفاخرين بإنجاز أديبهم... لذلك فإن «من أيام مليحة» يشد إليه الصغار والكبار قبل أن تجتاح جموع الشباب والكهول مقاهي المدينة لمصافحة النرجيلة وطاولات «الرامي» و«الديمينو» وينصرف الأطفال إلى اللهو بفرقعة الفوشيك ولعبة الغميضة مستغلين الظلام الدامس الذي يميز أحياء المدينة ليلا.