(1) ودّعنا منذ أيام شهر رمضان الذي عشناه كلنا جميعا طوعا وأحيانا مرغمين موسما استثنائيا للقصف والإفراط مأكلا ومشربا وسهرا. وقد يكون في هذه الشراهة الاستهلاكية والتي تتفاقم كل سنة ما يدعو رغم سلبيتها الواضحة الجلية إلى بعض التفاؤل إذا اعتبرنا أن فيها ما قد يدلّ أننا نسير نحو دنيوة (Sécularisation) ديننا الحنيف فلا ننقطع بعباداتنا على الدنيا لأنها جميلة من خلق اللّه وكل ما يخلقه اللّه جميل. ولعلّ ما يزيد من تفاؤلنا رغم كل ما تسبّبه هذه الدنيوة لشهر رمضان من مبالغة في الاستهلاك ومن تراجع في القيام بالواجبات من عمل وسلوك هو ذلك البحث عن مادة مبدعة لتغذية الفكر والوجدان حتى يتحقق التوازن بين مطلب الجسد ورغبة الروح وهو التوازن الذي يميّز الاسلام عن سائر الأديان فامتنعت فيه الرهبنة والانقطاع عن الدنيا والمغالاة في التعبد. ولقد أدركت القنوات التلفزيونية العربية ذلك فضاعفت من انتاجات الأعمال الدرامية فيها ما هو مفيد وكثيره رديء. (2) رأيت وأنا في الأراضي المقدسة حلقات من مسلسل تعاونت في انجازه قنوات عربية وبثّته في ليالي رمضان قنوات سوريا والعربية السعودية والسودان واليمن والكويت. وشدّني هذا المسلسل «رايات الحق» بما يطرحه من تساؤلات جريئة حول حقبة هي دون شك من أهم وأخطر حقبات تاريخ الاسلام، وهي تلك المتعلقة بحروب الردّة التي خاضها المسلمون بأمر من الخليفة أبي بكر لصون الاسلام والدفاع عن دولته الناشئة ضدّ المنشقين عن طاعة السلطة المركزية من أفراد وقبائل عربية أساسا. ومما يحسب لهذا الانجاز الدرامي إقدامه على طرح أسئلة كانت لزمن غير بعيد تعتبر من الممنوعات مثل شرعية هذه الحروب التي كما نعلم اليوم كانت سياسية اقتصادية أكثر منها دينية عقائدية وكذلك ما يتعلّق بشخصية صحابي كخالد بن الوليد الذي قاد هذه الحروب وأبرزه في شخصيته التاريخية كرجل حرب محمول على استعمال السيف «المسلول» أكثر من استعمال الرأي والسياسة. و ولم يتوان خالد بن الوليد كما يقدمه هذا المسلسل عن اشباع رغباته بزواجه من زوجة عدوّه رغم ثبوت الحدود. كما ميّز هذا المسلسل تصويره الذكي والمقنع لشخصية المرتد دون التحامل عليه من ذلك أن شخصية مسيلمة أشهر من ادّعى النبوة بعد وفاة الرسول الأكرم كانت على مستوى المعطيات التاريخية التي وفرتها المصادر المختلفة خارج النظرة التقليدية التحقيرية والتصغيرية التي تروجها الأدبيات الإسلامية المؤدلجة. (3) وما من شك فإن عملا دراميا مثل «رايات الحق» يشكل خطوة هامة في المساهمة في فهم تاريخنا الإسلامي بما يستوجبه من رصانة وموضوعية خارج استيهامات القداسة والتقديس. وإنّ الانتجات التلفزية على مختلف أنواعها «قادرة» على أن تقدّم إضافة قيّمة إلى ما يسهم به أهل الفكر والبحث من علماء المسلمين المستنيرين العاملين على إزالة غشاوة التقديس والتأليه للتراث الاسلامي دون تمييز غثه من سمينه ودون إدراك اللحظات المضيئة فيه من تلك التي تكتنفها ظلمة الجهل والانحطاط. (4) إن مقاربة مثل التي يطرحها هذا المسلسل «رايات الحق» من شأنها أن تكرّس عند المشاهد ملكة التعامل العقلاني مع التراث ومع المقدس. فيكون هذا التراث وهذا المقدس متحكما فيه ومصورا للتفكير المتجدد والفهم الواعي والايجابي إلى ما آل إليه حاضرنا. ومن المتأكد ان ما أقدمت عليه بعض القنوات العربية مثل التلفزيون السوري من بحث وتنقيب واستحضار للتاريخ العربي والاسلامي عبر انتاجات تتطور نوعيا بشكل مطرد سيكون لها بعد أمد الأثر البليغ في تعامل الجماهير العربية مع تاريخها تعاملا عقلانيا يكون مرتكزا لإعادة بناء نظرتنا للموروث الديني على أساس متين من الفكر الناقد الذي يمثل السبيل الأقوى لعقيدة سليمة تمقت التطرف وتسمو على الشعوذة. (5) وفي ذات الوقت تغيب عن تلفزاتنا الوطنية مثل هذه الانتاجات التي تنبش في ذاكرتنا التراثية الثرية لتترك المجال أمام انتاجات غارقة في تصوير ما شذّ من ظواهر اجتماعية قد لا تكون مفيدة لبناء الكيان التونسي الجديد العاطفي منه والأخلاقي والروحي. فتعرية المستور من بعض الاستثناءات لا يعني انخراطنا في الحداثة أو التطور لأن تونس الحقيقية العاملة والكادحة والحالمة والرافعة للتحديات هي تونس الأغلبية وهي الأجدر بأن تكون الحاضرة على شاشتنا في موسم الصيام والافطار.. وهذا موضوع سنعود إليه.