[email protected] (1) إستوقفتني منذ أيام معلقة إشهارية في محطة الميترو يقوم فيها المطرب الشبابي ومغني الرّاب التونسي المعروف بالبلطي (أو بلطي) بالترويج لنوع من الكراسات المدرسية تحت شعار «كراس حياتي», ولا أدري لماذا ذكرني هذا الإشهار في صيغته تلك وباستعمال صورة هذا المغني بأغنية المطرب الشعبي المصري حسن الأسمر والتي عنوانها «كتاب حياتي يا عين». فتدرك أمام هذه الصيغة الإشهارية كيف يفكر هذا المروّج أو المستشهر لينفذ إلى غريزة لفت انتباه المستهلك ليقبل على هذا النوع من البضاعة وإن كانت هذه البضاعة نبيلة وهي الكراس المدرسي... ويبدو أن مصمّم فكرة الإشهار يدرك بدوره جيدا وبحسّ ماركيتينغي عال توجّه الذوق والخيال الجديد لجيل صاعد من التلاميذ, الذين ربما قد تربوا على صوت مغني الرّاب بلطي أو غيره, إلى الإقبال على كل ما يمكن أن نسميه بالثقافة الشبابية في صيغتها الاستهلاكية المعاصرة. ولكن أهم ما ذكرني هذا الإشهار للكراس المدرسي ونحن نعيش العودة المدرسية بكل زخمها, هي صور تلك العودة أو العودات المدرسية التي عشناها نحن الجيل الذي تجاوز العقد الرابع من عمره واكتوى بلذة التعلم وابتلي بواجب التعليم. (2) و في حضرة ذكرى تلك العودة المدرسية يحتل الذئب مكانة خاصة في تجربتنا المدرسية خاصة في بدايات شتاءات الشمال الغربي التونسي. كان الخوف من الذئب شعورا فاصلا بين الحياة والموت أي بعبارة أخرى بين الهروب من الظلمة والجهل وبين النور والمدرسة... كنا في تلك السنوات الغابرة في أريافنا الحزينة نقطع أميالا للوصول إلى المدرسة ذات القرميد الأحمر, وكان الوصول إلى المدرسة يستوجب قدرا من المجازفة تتمثل في استباق صياح الديكة في الفجر ومقاومة أتعاب الطريق والبرد والجوع, والتمثل الدائم لشبح الذئب الذي يتناهى لنا عواؤه في الوديان المقفرة. وكان استحضار صور من التهمته الذئاب من أترابنا وتذكر محافظهم بكراريسها النحيلة وكتبها البالية وألواحها المهترئة وطباشيرها وكسرة خبزها التي يعثر عليها الرّعاة في الخلاء فيعيدونها إلى أوليائهم تمثل كابوسا مرعبا يجعلنا نكره المدرسة ونحبها في نفس الوقت لأن الوصول إليها كان بمثابة موعد من النجاة المتكرر. (3) و أذكر أن خرافة «حمراء حمراء» لشارل بييرو Charles Perrault التي كانت تسردها علينا معلمة الفرنسية من العذابات الحقيقية التي تذكرنا بذلك المصير الهالك, فجدات الذين التهمهم الذئب لم تتدخل لإنقاذهم, واستمر ذلك الكابوس كلما حضر الذئب في كتاب القراءة حتى وإن كان ذلك الذئب طبيبا مداويا بنظاراته يعالج الحصان, أو جريحا في قصيدة ألفراد دو فينيي Alfed de Vigny, أو حتى ذئبة مرضعة ورحيمة عند إبن طفيل ... وأذكر أنني حين أطلعت على الكتاب التحليلي الشهير «التحليل النفسي للخرافات» Psychanalyse des Contes de fées للمحلل النفسي الشهير برونو بيت لحم Bruno Bettelheim تذكرت الرّعب الذي يمثله الذئب في الطريق إلى المدرسة وتساءلت هل كان هذا المحلل النفسي قادرا على استيعاب ذلك الرّعب الطفولي الذي كان يلم بنا ونحن نسمع عواء الذئب في الفجر في طريقنا إلى المدرسة؟ وهل أن مقاومتنا للمصاعب كانت فعلا لها علاقة بقدرة الإدراك المطمئن لخرافة «حمراء حمراء» حين تروى على مسامعنا حسب نظرية برونو بيت لحم؟ (4) لكن ذلك الذئب لا يزال في نظري متربصا بنا إلى اليوم في طرقات ومسالك حياتنا الحاضرة , غير أنه قد دجّن الذئب تدجينا حين أدركنا كيف نفلت من سطوته ووحوشيته... وأعتقد أن ذلك الذئب الذي أكل أترابنا قد هزم تماما عندما استمرت المدرسة مضيئة في عتمة الفجر. وكانت تلك هي الأم أي الذئبة المرضعة والرحيمة وقد استعارت بهاءها من أسطورة الذئبة الرومانية التي أرضعت روموس وروميلوس... وأدرك أن حليب الذئبة الأم كان حليبا قويا كماء السلوان حول أطفالها إلى ذئاب جدد يدافعون على حياضها ضد الذئب القاتل والفاتك والمتربص بنا وهو الجهل... كانت الاستعارة في ذهني في تمامها حين يكون الهروب من الذئب القاتل إلى الذئبة الرحيمة والمرضعة, غير أن الاستعارة لا تكتمل إلا باستحضار ذلك الرّعب اللازم الذي يمثله ذئب الجهل والظلام والتطرف والانغلاق والتقوقع. وبإدراك تلك العبارة تتحوّل مقولة «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» إلى مقولة «الجهل ذئب لفريسته الإنسان». (5) وبعيدا عن الذئب وسوداويته... هي ذي الأمة التونسية تحتفل بشكل خاص بالعودة المدرسية التي باتت تشكّل موعدا حماسيا تتحفز له العقول والأرواح. فتونس قد خبرت في تاريخها الحديث منذ عصر النهضة الإصلاحية في القرن التاسع عشر وصولا إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة أهمية التعليم والتعلم ... فالتعليم بات جهاز المناعة الوحيد إن لم أقل الأوحد والسلاح الوقائي للدولة والمجتمع لديمومة الأمة ضد الانقراض والتلاشي ... وأصرّ على استعمال عبارة «الأمة التونسية» بكل ما تحمله هذه العبارة من دلالة سياسية حديثة على التمايز وبناء الشخصية الثقافية القادرة على الجدل والتشارك مع الأمم الأخرى المعاصرة في ميادين المعرفة والثقافة والفن والعلوم والتكنولوجيا, دون قطع الصلة مع الأم أو الجدة العجوز وذاكرتها الأصيلة ... وقد يعدّ كلامي هذا بديهيا أو لعله يبدو متناسلا من خطاب أيديولوجي كان بمثابة الخطاب الأساسي للدولة الوطنية الحديثة ورهانها على المدرسة والتعلم والتعليم والتربية بشكل. وليكن الأمر كذلك فللإيديولوجيا لزومياتها حين تكون الرهانات بحجم تطلعات الأمة نحو مكان حقيقي تحت الشمس... نعم الذئب كامن في الأيديولوجيا أيضا... وإني أحن إلى حليب الذئبة المرضعة . تحية لنورالدين الورغي عن مسرحيته «إليك يا معلمتي» لأنها في قلب هذه الحكاية