ينتهجُ بعض المشتغلين في السياسة ليس في تونس فحسب بل في دول ومجتمعات عديدة فلسفة خاصة جدّا في عملهم المعارض على وجه الخصوص، فلسفة حيثما قلّبتها وجدت فيها نحوا من العُجب والغرابة. الفعل السياسي المعارض في أصله وفي مبدئه ومنتهاه هو تأطير للمناضلين وتعزيز لحجم المشاركة الحزبيّة الشعبيّة المختلفة في رؤاها ومرجعياتها وعقائدها عن السلطة الحاكمة وحزبها الأغلب وهو كذلك طرح للبدائل وتقديم للتصوّرات وإثراء للجدل والحوار في كذا تجربة ديمقراطيّة تعدّديّة، وتتأكّد تلك المهمّة وترتقي لتكون أساسيّة ومحوريّة عندما تُكشفُ حقيقة هذه الكيانات المعارضة من حيث الضعف ومحدوديّة انتشارها الجماهيري وخواء مُقارباتها السياسيّة والإيديولوجيّة وتراجُع إشعاعها الميداني وانقطاعها عن الناس وانحسارها في مجال نخبوي ضيّق وعجزها بالتالي عن إحداث تغييرات جوهريّة في موازين القوى الّتي تحكمُ الساحة السياسية. البعض من المعارضين تعصفُ بهم نزعاتهم الذاتيّة والمصلحيّة الضيّقة ويتغلّب على تحرّكاتهم ومناشطهم هوس البحث عن النجوميّة والزعامتيّة وتوهّم البطولة عبر السعي المحموم الى افتعال حدّة صدام ومواجهة مع السلطة الحاكمة ، والحال أنّه من الأجدى أن يعلم هؤلاء أحجامهم داخل أحزابهم وتياراتهم الفكريّة والسياسية وكذلك أحجامهم وسط مختلف تكوينات المشهد السياسي في هذا البلد أو ذاك. هناك منطق يحكم الخارطة السياسيّة والحزبيّة ، وهناك كذلك معطيات واقعيّة ملموسة تُشكّل تلك الخارطة من حيث الأحجام ونسب الانتشار والقدرة على تغيير مفاهيم وأسس أيّ تشكّل سياسي أو تراتبيّة بين الأحزاب ، تلك المعطيات لا يُمكن القفز عليها أو تجاهلها في انجاز مقاربة أو تقييم مّا لنشاط بعض الأحزاب المعارضة أو بعض الأسماء المعارضة. وعندما ينحو البعض منطقا تصعيديّا ويسلكُ طرائق أقرب إلى الإثارة واستعطاف مشاعر الناس فإنّما هو يؤكّد حقيقة العجز عن ولوج المعترك السياسي المعارض من بابه الصحيح والموصل إلى مطلبيّة عاليّة قد تصل درجة الحق في المُطالبة بالتداول على السلطة. وربّما لمثل هذه النزعات الشخصيّة الضيّقة ولمثل هذا الهوس بقيت المعارضة في بلادنا ضعيفة يتلاعب بها البعض من محترفي الإثارة والتهريج ، ويقعُ ذلك كلّه رغم ما يُتاح اليوم للأحزاب المعارضة من فرص وهوامش ومجالات للتحرّك الميداني والاقتراب من المواطنين والسعي الى ادماجهم في الحراك السياسي وإثنائهم عن العزوف والوقوف على الربوة ، هذا إلى جانب ما يضيع من وقت وجهد كان من الأجدى توجيههُما إلى البناء والإثراء والاقتراح لا عكس ذلك من غرس معاويل الهدم والإساءة إلى الصورة المدنيّة الراقية التي تعرفُها بلادنا منذ عقود غابرة ، صورة ارتقت بتونس لتكون نموذجا مثاليّا في النماء والتقدّم ومُغالبة الصعوبات والسير قُدُما إلى مصاف الدول المتقدّمة. إنّ من أخطر المساوئ التي قد تلحق الفعل المعارض هو أن يتحوّل إلى لازمة ذاتيّة وأداة مصلحيّة ضيّقة تتناسى الواقع بمعطياته وتقفزُ على تطلعات الشعب في حياة هانئة وآمنة وخالية من كلّ عوامل الإثارة أو الاضطراب.