يومان وتحل ذكرى عزيزة على النفس متجذرة في الوجدان ذكرى تطهير الأرض التونسية من دنس الاستعمار بجلاء آخر جندي فرنسي عن الثغر الخالد مدينة بنزرت يوم 15 اكتوبر 1963.. ثلاثة أجيال على الاقل من شبابنا لم يعيشوا تلك الايام وكثيرون ربما يجهلون ما سبق ذلك بسنتين ونيف بل وبضع سنوات.. فتونس نالت استقلالها يوم 20 مارس 1956، لكن بقيت على أرضنا قوات فرنسية هنا وهناك وعين باريس على «الجزائر الفرنسية» وعلى المعمرين في اراضينا الخصبة، وكانت ثورة الجزائر العظيمة تعمد جبال الاوراس وكثبان الصحراء وإسفلت القصبات بدماء زكية طاهرة وتحولت ارضنا الى واحدة من أرأم القواعد الخلفية احتضانا لاشقائنا الثوار..ولم تتوقف دولة الاستقلال عن المطالبة بخروج العسكر الفرنسيين وحصلت مواجهات بعضها دام.. ولم تتوقف الحناجر عن المطالبة ب«الجلاء والسلاح». وفي الثامن من فيفري 1958 كان العدوان الغاشم على ساقية سيدي يوسف انتقاما من الالتحام بين الشعبين التونسيوالجزائري ..خمس وعشرون طائرة حربية فرنسية ألقت قنابلها على القرية الآمنة في يوم سوق واستهدفت المدنيين فيه والاطفال في مدرسة القرية مخلفة تسعة وسبعين قتيلا من أبناء وبنات تونسوالجزائر منهم عشرون طفلا وإحدى عشرة امرأة، ومائة وثلاثين جريحا، ودمارا شاملا.وشحنت النفوس وتعالت صرخات احرار العالم تدين الجريمة وقطعت تونس علاقاتها بفرنسا وأمرت قواتها بلزوم الثكنات والاستعداد للرحيل وكانت تلك البداية. في 3 جويلية 1958 غادرت القوات الفرنسية رمادة وجلت عن صفاقس بعد ثلاثة ايام وفي الحادي والعشرين من الشهر نفسه رحلت عن قفصة وبنهاية أوت من ذلك العام غادرت قابس ومدنين وبقية المدن إلا بنزرت. وكان عام 1961 ..ثوار الجزائر كانوا على عتبة جني ثمار المواجهة بعد ست سنوات من الجمر والزعيم بورقيبة زار باريس وكرر المطالبة بالجلاء عن بنزرت لكن وفي اوائل جويلية بدا الجيش الفرنسي يوسع قواعده ويعزز منشآته في بنزرت (خاصة قاعدة سيدي احمد الجوية) غير عابئ بإرادة شعبنا الذي هب كرجل واحد يسير المظاهرات في كل مكان ويقيم السدود ويحفر الخنادق حول قاعدة سيدي احمد لمنع المحتلين من تنفيذ مخططاتهم.. واحتشد عشرات الالاف من المدنيين العزل حول بنزرت بداية من 8 جويلية وتأهب الجيش الوطني والحرس الوطني للمواجهة.. وكان العدوان.. قوة فرنسية عاتية في مواجهة قوات فتية وجماهير لا تحمل الا الايمان والاصرار على التضحية والفداء.. في التاسع عشر من جويلية بدأت فرنسا القصف بكل انواع الاسلحة بما فيها المحرم مثل قنابل النابالم وسقط المئات من الشهداء والجرحى وسجلت بطولات من قبل افراد الجيش والحرس والمتطوعين في شوارع بنزرت وأزقتها وأطرافها..وتحرك العالم وطالب مجلس الأمن الدولي يوم 22 جويلية بوقف العدوان ووصل الامين العام للامم المتحدة الى تونس في 25 من الشهر نفسه لمعالجة الوضع.. وانتخبت الجمعية العامة ممثل تونس المرحوم المنجي سليم رئيسا لدورتها الجديدة في سبتمبر.. وفي 18 سبتمبر حصل الاتفاق على سحب جميع القوات الفرنسية عن مدينة بنزرت لتعود إلى مراكز انطلاقها الأول دون قيد ولا شرط. وشرعت هذه القوات فعلا في الانسحاب حيث رفعت الأسلاك الشائكة وأقلعت بعض البوارج عائدة الى فرنسا.. ونالت الجزائر استقلالها وخرجت فرنسا مرغمة مدحورة من القطر الشقيق.. وفي 15 أكتوبر 1963 تم جلاء آخر جندي أجنبي عن بنزرت وعن أرض الوطن. وكان الجلاء العسكري تمهيدا لإزالة آخر آثار الاستعمار باسترجاع اراضي المعمرين (800 ألف هكتار في أخصب المناطق) يوم 12 ماي 1964 (ذكرى توقيع اتفاقية الحماية 12 ماي 1881). منا من عاش تلك الحقبة ومنا من شارك في أطوارها واحداثها ومن هؤلاء من رحل لكن بقيت الذكرى وبقي التاريخ وبقيت تونس... انتصر الحق وانتصرت الارادة.. تطهرت الارض اذ تطهرت النفوس وغلبت العزيمة وحب الفداء ونكران الذات وعلت الهمم وترسخ في القلوب الايمان بالله وبالوطن وبالحرية و«لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم». حقق أسلافنا ما حققوه لأن نفوسهم كانت طاهرة وقلوبهم كانت عامرة ومنهم من قضى نحبه قرير العين ومنهم من ينتظر.. ووفاء لهذه الذكرى الخالدة ووفاء لهؤلاء ومن حقهم علينا ألا نبدل تبديلا... وحتى لا نبدل وجب علينا الا نترك للاستعمار مدخلا الى النفوس .. فهواية ما هو أجنبي نستورده أو نتقمصه دون دراية او استفادة من علم واخلاق تبديل.. والتنكر للاصالة تبديل... والاستقواء بالاجنبي على أبناء الوطن مهما كان الاختلاف في الرؤى والتوجه تبديل..وتجنب الصدق في العمل والمعاملة تبديل ..وعدم الغيرة على الارض والعرض تبديل.. ومن أحب تونس وجب عليه ان يستلهم هذه المعاني في هذه الذكرى حتى يكون الجلاء ليس مناسبة فقط نحتفل بها بل سيرة نظل بها شعبا قوي الارادة صعب المراس غيورا على حريته واصالته وايمانه وتظل بها تونس حرة منيعة أبد الدهر.