يوم الخميس 21 أكتوبر 1879 كشف توماس إديسون للعالم عن المصباح الكهربائيّ. ذلك الاختراع البسيط العظيم الذي غيّر شكل الزمن وساهم في إخراج فكرة التنوير من ثوبها التجريديّ ليجعلها جزءًا من حياة الإنسان الملموسة واليوميّة. أتذكّر هذا الرجل الأصمّ الذي «أسمعت اختراعاته من به صمم»...هذا العصاميّ الذي لم يتخرّج من مدرسة فإذا هو «جامعة» بمفرده...هذا النابغة الذي اتّهمه معلّموه بالغباء فإذا هو من أكبر مخترعي العالم وأكثرهم إنجازًا... ثمّ أنظر إلى «خلفائه» فأرى بعضهم لا يقلّ عنه عبقريّة، وأرى في بعض اختراعاتهم ما قد يفوق المصباح الكهربائيّ قيمة وفائدة...ثمّ أسأل: لماذا لا أرى النور ساطعًا إذنْ؟ وأين رمزيّة التنوير في هذا الذي يحدث؟ إلاّ إذا كان للتنوير صلة قُربى بهذه الشجرة «الغربيّة الشرقيّة» التي تغطّي ظلالها الحالكة العالمَ بمظاهر الاحتلال والقهر والفقر والأميّة ومخاطر التقسيم والفتن الطائفيّة والعرقيّة والعنف السياسيّ والاجتماعيّ والعمى الأخلاقيّ والتضليل الإعلاميّ والخوار الترفيهيّ والثغاء الاستهلاكيّ، من الصومال إلى موريتانيا، ومن الشيشان إلى أفغانستان، ومن العراق إلى اليمن، ومن فلسطين إلى السودان، ومن أدغال أمريكا اللاتينيّة إلى غابات إفريقيا، ومن مظاهرات أوروبّا الاحتجاجيّة إلى مظاهرات العرب الكرويّة؟! أين ميراث مصباح إديسون الكهربائيّ ، وأين رمزيّة التنوير، وأين قيم العقلانيّة والتعدّد والتسامح والحوار، في أن تمارس إسرائيل التطهير العرقيّ باسم يهوديّة الدولة الإسرائيليّة، وفي أن يعلن ساسةٌ ومفكّرون فرنسيّون مرارًا وتكرارًا بأن تركيا مرفوضة أوروبيًّا لأنّ أوروبّا العلمانيّة يهوديّة مسيحيّة!!؟ وفي أن تعلن ميركل قبل أيّام أنّ نموذج التعدّديّة الثقافيّة في بلادها فشل تمامًا، وأنّ على المهاجرين أن «يندمجوا»، أي أن يخسروا أنفسهم إذا أرادوا كسْبَ ألمانيا؟! بل أين التنوير في أن يتمّ تأليب شعوب الدول الغنيّة على بُناتِها، وفي أن يتمّ التحايل على مبادئ حقوق الإنسان كي تصبح حكرًا على إنسان دون آخر؟ شيئًا فشيئًا تمّ اغتيال أحد الحقوق الأساسيّة التي جاء بها التنوير: «الحقّ في الاختلاف»...وحلّ محلّه «واجب الاندماج»، ذلك الشعار الذي أثبت التاريخ أنّه مقدّمة طبيعيّة للتخلّص من «المختلف» وإقصائه حدّ «إبادته». شيئًا فشيئًا أخذ غول العنصريّة يكشف عن وجهه ويتخلّص من أقنعته ويتفشّى في الخطاب السياسيّ الغربيّ، موظّفًا كلّ شيء، حتى العلم، حتى الحمض النوويّ، لتقنين التمييز وتكريس الإقصاء بدعوى أنّ العنف والغباء والتخلّف سمة بيولوجيّة وحكر على عرق دون آخر... إنّه زواج السياسة والبيولوجيا من جديد... ذلك الزواج الذي حدّد فوكو حصوله عند أفول النظام الإقطاعيّ وظهور الرأسماليّة، والذي لا تعني عودته من جديد (هذا إن صحّ أنّه اختفى) سوى توظيف الفكر والعلم معًا من أجل إخراج كلّ الأفكار المضادّة للتنوير من مكامنها وإدراجها في متن الخطاب المعلن. لم تبخل المخيّلة العامّة طبعًا بحياكة «الأساطير» حول اختراع توماس إديسون كما هو شأنها دائمًا...وممّا جاء في بعضها أنّ أمّ إديسون مرضت مرضًا شديدًا استوجب إجراء عمليّة جراحيّة عاجلة، وكان الوقت ليلاً، فلم يستطع الطبيب إجراء العمليّة واضطرّ لانتظار الصباح. هكذا ولدت الرغبة، حسب «الأسطورة»، لدى إديسون، كي يجد حلاًّ لظلمة الليل. والحاجة أمّ الاختراع. وبعد آلاف التجارب استطاع أن يصنع مصباحه الأوّل، الذي بدا في ذلك الوقت أكثر سحرًا وعجائبيّة من مصباح علاء الدين، قبل أن يتحوّل إلى استعارة كونيّة كبرى، تشير إلى قدرة الإنسان على مواجهة الليل بالنهار، وعلى مقاومة الظلام بالضوء! فماذا فعل العلم والفكر بميراث الرجل؟ ولماذا مرّ كلّ هذا الزمن على ظهور ذلك الاختراع دون أن تتحوّل الإستعارة إلى واقع؟ ولماذا نرى الكثيرين من كبار العلماء والمفكّرين، يجاهدون ويجتهدون في تحويل التنوير إلى تعتيم، ويتفانون ويتفنّنون في صناعة الظلمة وتعميم الليل الحالك؟ هل ضاع مصباح إديسون وهل علينا أن نستعين في البحث عنه بمصباح ديوجين؟ أم أنّ كِلاَ المصباحين ضائع، بينما أديسون وديوجين يعيشان اليوم في البرميل نفسه، ويتجوّلان آناء الليل وأطراف النهار، بحثًا عن الحقيقة الحقيقيّة والإنسان الإنسان؟