يدير مؤسسة غامضة لكنه يجند نفسه لازالة «الغموض» وكشف المستور... مطارد للحقيقة... ومطارد من المخابرات الغربية... متهم بارتكاب جرائم قرصنة وجرائم اغتصاب لكنه يتهم في المقابل الأمريكان بارتكاب مئات آلاف الجرائم في العراق وأفغانستان... استطاع أن يكشف الكثير من الاسرار من قلب أكثر أنظمة العالم تأمينا لكنه بقي سرا لم يستطع أحد أن يكشفه... بشعره الابيض الذي غزاه الشيب المبكر ولغته الانقليزية «المطعمة» باللهجة الاسترالية أصبح جوليان أسانج اليوم الصوت والواجهة لأكبر عمليات تسريب للوثائق السرية الأمريكية في التاريخ... هذه القضية التي فجرت بحورا من التساؤلات... ودوخت العديد من أجهزة المخابرات... بطلها ليس سوى اعلامي من أستراليا... استهوته الحقيقة وسكنته... فخاض غمار البحث عنها جاعلا رسالته «الحقيقة حتى النهاية».. حتى اقتادته رسالته هذه الى الحق ورغم أنهما ليسا متلازمين فالحقيقة لا تعني الحق بالضرورة فإنهما في رأي أسانج توأمان... كانت بداياته الأولى من مسقط رأسه في استراليا... هناك عاش أسانج حياة ملؤها الترحال من بلد الى آخر... ولأن أمه كانت سفراتها لا تتوقف فقد حرم من التعليم النظامي واضطر الى تعليم نفسه بنفسه... ولما استقر في مراهقته بمدينة ملبورن الاسترالية اكتشف لأول مرة وهو العصامي شبه الأمي، الانظمة المعلوماتية وأصبح في ظرف وجيز من «القراصنة» البارعين... شكل بمعية أصدقائه خلية تخصصت في قرصنة مواقع وقواعد بيانات المواقع الرسمية الاسترالية والأوروبية والأمريكية... لكن كثرة العمليات التي نفذها أسانج وأصدقاؤه وتقاربها أوقعت به في المصيدة ومن ثم حكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ... كان لهذه التجربة بالغ الأثر في حياة أسانج اذ قرر الشروع في دراسة الرياضيات والفيزياء لكنه سرعان ما عاد الى هوايته في المعلوميات ليصبح بذلك تقني برمجيات مشهودا له بالاتقان والابداع... وفي عام 1993 أسس شركة سماها «سوبوريبا» متخصصة في الولوج الجماعي الى شبكة الأنترنت... ورغم أن هذه التجربة حققت نجاحا كبيرا مكنت باعثها من أن يكون أحد أبرز المدافعين عن حرية التعبير في الشبكة العنكبوتية فإن أسانج «حن» الى زمن الترحال فسافر بذلك الى أوروبا ومنها الى آسيا وعرج على الكثير من العواصم العالمية ك«أمستردام ولندن وستوكهولم ونيروبي قبل أن يحط الرحال بمدينة سان فرانسيسكو في أمريكا ولا مؤشرات في الأفق عن نهاية هذه الرحلات «العابرة للقارات»... يقول أصدقاؤه ان عبقريته جعلته يصاب بنوع من جنون العظمة يجعله لا يدرك عواقب ما ينشر من أسرار وأنه وحده من يتخذ قرار نشر الوثائق ومن يحدد طريقة النشر وموعده... قلما نجح محاوره في اثارة أعصابه أو استفزازه لأن أسانج «المناضل الحقوقي» ينتصر في كل حوار على أسانج الصحافي فيورط محاوريه في نقاش طويل عن الأسس التاريخية والفلسفية لحرية التعبير الى درجة أن أحد حواراته كان ينتظر أن يدوم نصف ساعة فقط فإذابه يستمر خمس ساعات كاملة... يجيب أسانج بديبلوماسية بارعة عن الأسئلة المتعلقة بقناعاته السياسية ويحرص على اختيار كلماته التي ترافقها بين الحين والآخر ابتسامة ساخرة تعكس دهاء هذا الرجل وغموضه الذي جعله لا يفصح حتى عن تاريخ مولده بدقة... يعيش أسانج اليوم حياة طريدة... يطلب طعامه همسا في المطاعم... ويسجل نفسه بأسماء مستعارة في الفنادق... يصبغ شعره بلون مختلف بين الحين والآخر... ينام على الأرض والارائك... يحيط نفسه بالسرية التامة حتى أنه يغير نفسه كما يغير قميصه بحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية... لكن ما يحسب للسيد جوليان... أنه نجح في احداث تغيير مهم... ونقلة نوعية في عالم الصحافة الاستقصائية... وأيضا في فضح الأمريكان...