٭ بقلم الأستاذ محمد الأزهر العكرمي لست أدري متى سيتمّ فتح باب النقاش على نطاق واسع بين المثقفين والقانونيين، وباقي النخب من الإدارة، والنقابات، حول النظام الانتخابي الذي سيتم اعتماده في تونس؟ وأنا أضيف هنا قطعا لكل تأويل خاطئ، أنّي لا أقصد حوارا تديره اللّجنة المكلّفة من قبل الحكومة المؤقّتة، والتي يرأسها الأستاذ عياض بن عاشور، بل الحوار الذي تتناوله الفضائيّات، والصّحف والإذاعات.. وإن كنت أعتقد من ناحية أخرى أن اللّجنة المذكورة، بمجرّد أن تشكّلت دخلت في السّرّية، وقد كان بإمكانها أن تظهر في الإعلام وتستمزج الآراء حول الإصلاح السّياسي الذي يشكّل النّظام الاتنخابي العصب الرئيسي فيه، لعدد من الأسباب، لعلّ أهمّها: 1) أن اختيار واحد من الأنظمة الانتخابيّة المعاصرة يكون حسم بالضّرورة، نوع البرلمان والحكومة التي يراد لها أن تدير شؤون البلاد، أو بلغة أخرى الشكل السياسي للدولة، والحال أن هناك أنظمة انتخابيّة مبسّطة كنظام الأغلبية الذي يعتبر الأقدم في العالم، وهو ما يزال يحظى بتفضيل أكثر من 80 بلدا في العالم، وفي هذا النّظام يفوز المرشّح الذي يحصل على أغلبية الأصوات، أي المرشّح الأكثر شعبيّة، وهو نظام يؤخذ عليه إلى جانب قلّة التعقيد، أنه غير عادل، إذ هو قد يعطي أغلبية برلمانيّة لا تنسجم مع حصّة الحزب الفائز من الأصوات كأن يحصل الحزب على 45 بالمائة من الأصوات ويستحوذ على 90 بالمائة من المقاعد ويشكّل حكومة بمفرده؟ ويتعايش مع هذا النّظام الانتخابي نظام آخر هو النظام النسبي وهو مطبّق في أكثر من 60 دولة، ويوصف بأنه نظام العدالة الانتخابية، أي بمعنى أن عدد المقاعد التي تحصل عليها القوى السّياسيّة تكون متساوية مع نسبة حضورها الانتخابي، فلا أحد يستأثر بالتمثيل الكامل ولا أحد يحرم من التمثيل، وهذا النّظام يفرض التّصويت للقائمة، وفي دورة واحدة... وهو ينقسم إلى نظام نسبي كامل بحيث تعتبر البلاد كلّها دائرة انتخابيّة واحدة، ويتمّ توزيع المقاعد على القوائم الحزبية حسب النّسب المتحصّل عليها إجماليّا ومثالها النظام الانتخابي المعتمد في الكيان الصهيوني. أو التمثيل المختلط الذي بموجبه تجري الانتخابات في ان واحد على أساس الدّوائر والتمثيل النسبي كما هو الحال في ألمانيا، واليابان والسّينغال، وبلغاريا، وهو يتطلّب أن يشترك النّظام النسبي إلى جانب نظام الدّوائر بحصّة لا تنزل عن الثلث ممّا يعني أنّ هذا النّظام لا بدّ أن يتشكّل مناصفة لتتحقق العدالة الانتخابية.. أنا أطرح هذا السّؤال اليوم لاستفزاز نخبنا التي تتحدّث عن كيفيّة حماية الثورة.. ومنع النظام الاستبدادي مع أي بن علي آخر من العودة.. علّها تتوقّف عن كتابة المقالات الإنشائية التي تتغنّى بثورة لم تساهم فيها في الغالب، وتنكبّ على دراسة الآليات، والأفكار الكفيلة فعلا بالتّأسيس لنظام ديمقراطي نحلم به جميعا وأخشى أن يسرق منا في غمرة الانفعال والتفكير العاطفي بعدد من الفصول القانونية التي تعيد الاستبداد بشرعيّة الأغلبيّة إلى الواجهة.. فالخارطة السياسية مازال يكتسيها الغموض، حيث لا أحد يعرف ولو بشكل تقريبي حجم تمثيل القوى السياسية في الشارع، على الأقل لسببين رئيسيين: 1) أن المجتمع التونسي يفتقر إلى الحد الأدنى من ثقافة المشاركة السياسية الواعية، وإن كان قدّم نموذجا ملحميا لثقافة الاحتجاج.. 2) أن أغلب النخب جاءت من مشارب إيديولوجية تحض على اعتناق السياسة الكبرى من قبيل الاشتراكية، وحماية الطبقة أو التحالف الطبقي، أو العمل على تحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية، وتحتقر السياسة الصّغرى التي نحن بصددها الآن، وليس أدل على ذلك من الحيرة في الأوساط الشعبية بخصوص هوية الأحزاب والشخصيات الوطنية، وإهمال هذه الأخيرة لمواضيع مثل الأنظمة الانتخابية، والمواد التي يجب أن تضمن بالدستور، وعلاقة الدستور الجديد بالقانون في مستقبل الديمقراطية التونسية، وما إلى ذلك من الموضوعات الحيوية التي لو تم الخوض فيها بشكل معمّق في وسائل الإعلام، لأدّى إلى تأثيرات عميقة في سلوك وتوجّهات اللّجنة التي شكّلها رئيس الحكومة المؤقتة.. والتي وإن اتفقنا على كفاءتها الصناعية، يبقى دائما من حقنا أن نختلف معها في اختياراتها ورؤاها .. كما يبقى من حقنا أن نشكّك حتى في نزاهتها إلى أن تثبت هي العكس، دون مساس طبعا بمقامات الأشخاص في حدّ ذاتهم... وإني أبادر إلى طرح هذه الموضوعات الآن، أوّلا من منطلق الخوف من الانحرافات، والانزلاقات التي قد تحصل في نطاق الممارسة السياسية التي نشهدها بعد سقوط نظام بن علي الذي اعتمد مبدأ الانتداب المغلف بمهازل انتخابية طيلة الثلاثة والعشرين عاما الماضية، مع الإشارة إلى أنّ نظام سلفه الحبيب بورقيبة لم يكن أفضل حالا بهذا الخصوص.. وثانيا لأني كنت منشغلا في عهد الدكتاتور، وقبل تشكيل لجنة الإصلاح السياسي بهذا الموضوع، وقد كتبت على صفحات «الطريق الجديد» بتاريخ 03/10/2009 ما نصّه حرفيّا بهذا الخصوص:»... تعالوا نفكر في البديل إذن قبل السّطو على مستقبل أولادنا وصرف مستحقّاتهم في غير وقتها.. سيكون النظام البرلماني القائم على سلطان الحكومة هو العلاج الوحيد، الذي يضمن الاستقرار، ويوفّر التنمية.. وهو نظام يمكن أن يقوم على حزبين قويّين مع عدد من الأحزاب الأخرى.. تماما كما يحدث في التوازن البيئي الذي يحفظ حقوق القوي والضعيف في أعماق البحار وغابات كينيا، وكذلك في المجتمعات المتحضّرة، فتتشكّل حكومة الأغلبيّة أو الائتلاف الحكومي، حسب نصيب الأحزاب من الشرعية.. وقتها سيسهل على الناس تحميل رئيس الحكومة مسؤولية ارتفاع نسب التضخم، وازدياد نسب البطالة، وغلاء الأسعار، والزيادة في الضرائب غير المباشرة التي تنخر دخل الفقراء... وكل ذلك تحت طائلة سحب التكليف الذي منح لحزبه في الانتخابات الأخيرة، وإمكانية منح الثقة لحزب آخر يملك حلولا يعرضها في برنامجه الانتخابي... سيكون لزاما على دولة رئيس الحكومة أن يراجع أسعار المحروقات حين تتراجع الأسعار في الأسواق الدولية... وإلاّ فإنه سيجد في مواجهته كل السيارات، والدراجات النارية، والشاحنات، والجرارات، والتريسيكلات، إضافة إلى الكتل النيابية .. والأحزاب الصغيرة التي لم تحصل على مقاعد في حكومته.. بل أنّه قد يضطر الناس لدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة بعد أن تخرج مظاهرات لا تحرق سيارة واحدة، ولا تهشم واجهة بلورية، ولا تعتدي على شرطي يرافق المتظاهرين بضرورات الأمن الحقيقي.. سيرد البعض بالطبع، بالتساؤل عن الضمانات، سواء بمنطق شرعية الابتزاز أو بمنطق اللاّئكية والعلمانية في طبعتها الساذجة.. وماذا لو أفرز الوضع دولة دينية تلتهم البلاد في غضون أشهر قليلة؟ كأن تفوز جبهة إنقاذ جديدة في انتخابات حرّة ونزيهة، وسرعان ما اقتنع الناس الذين علّمناهم على مدى ستين عاما أنهم سكان، ولم نعلّمهم كيف يكونوا مواطنين، بأن الديمقراطية، فجور وشرك بالله... ويزيدوا في التّأزّيم، بأن يصوّروا الشعب التونسي وهو يكفكف دموعه قدام شاشات التلفزة تحت وطأة موعظة للشيخ القرضاوي عن أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية، ومواجهتها بمزيد من الإيمان والصلوات والأدعية... ومنح الثقة العمياء للولي الفقيه السني... لنرد على ذلك فورا بالقول، إنه في غياب الثلث الضامن أو الثلث المعطل الذي ورد في المدوّنة السياسية اللبنانية، و لا يصلح لغير ديمقراطية الطوائف، ليس هناك أفضل من الجيش الوطني الشعبي ليقوم بهذه المهمة، لاسيّما وهو على حدّ علمي ليست له مطامع لا في الجزائر ولا في ليبيا بأن يحرس الديمقراطية، والنظام البرلماني بعد صياغة ميثاق وطني ينص على ذلك صراحة ولن يكون ذلك صعبا، ما دامت لنا تجربة هامة في المفاوضات الاجتماعية منذ عقود، على الأقل من حيث الشكل، فهي من حيث الأصل تفضي دائما إلى أجور تتسلّق الدرج وأسعار تستقل المصعد في نفس البناية» كان ذلك في حينه خواطر، شبيهة بغثيان ذلك الزمن الموحش الذي فرضته الماكينة الأمنية والسياسية لبن علي.ولم يكن نبوءة، أو استشرافا لما حدث بعد ثلاثة أشهر من كتابة ذلك المقال.. أمّا اليوم فإن الفصل الفوري بين ثقافة الاحتجاج المجرد، وثقافة التنظيم، ووضع الخطط، وتخصيب الأفكار، أصبح أكثر من ضرورة لمستلزمات المرحلة القادمة.