يظهر ان التونسيين، وهم في غمار الثورة، قد نسوا الاحتفال بحدث هام يمثل في محتواه،وفي الظرفية التاريخية التي برز فيها، نقلة نوعية في التفكير السياسي للنخبة التونسية ونعني بذلك صدور أول دستور في العالم العربي والإسلامي من تونس وذلك يوم 29 جانفي/كانون الثاني 1861. وهوما يعني ان الفكرة الدستورية في تونس لم تكن غريبة على الوعي الوطني، بل تبدوفكرة متجذرة لها تاريخها الذي بدأ قبل الاحتلال الفرنسي للبلاد التونسية... وكانت لجنة من رجال الدولة وبعض العلماء قد تولت إعداد هذا الدستور الذي أعلن عنه محمد الصادق باشا باي، حاكم البلاد، يوم 29 جانفي /كانون الثاني1861 وحدد يوم 26 افريل/نيسان 1861 كتاريخ لابتداء العمل به. احتوى دستور 1861 على 114 فصلا، تضمن الفصل الأول منه حقوقا وواجبات أفراد العائلة المالكة، والفصل الثاني حقوق وواجبات الملك، والرابع تنظيم الوزارات والمحاكم المستحدثة. أما الفصل الرابع فضبط المصاريف الخاصة بالملك، والسادس حددّ كيفية تعيين أعضاء المجلس الكبير(البرلمان)، الذي يتكون من ستين عضوا ثلثين من أعيان البلاد والثلث الآخر من رجال الدولة،وللمجلس النظر في ميزانية الدولة ومراقبة الوزراء ومحاسبتهم.وضبط الفصل التاسع ميزانية الدولة والعاشر الخطط السياسية في حين حدد الفصل العاشر النظام الداخلي لموظفي الدولة أما الفصل الثاني عشر فبين حقوق وواجبات الرعية.. وبذلك أصبح الباي مسؤولا أمام المجلس الأكبر الذي أصبح بوسعه خلع الباي في حالة مخالفته للقانون. كما جعل الدستور السلطة التشريعية مشتركة بين الباي والمجلس الأكبر. أما السلطة القضائية فأصبحت مستقلة عن الباي وأسندت إلى عشرة مجالس جنايات (محاكم ابتدائية) ومحاكم عرفية ومجلس التحقيق(محكمة استئناف)في حين أسندت محكمة التعقيب إلى المجلس الأكبر. وكان يشرف على كل هذه المحاكم قضاة قارون لا يمكن عزلهم وبالتالي فهم مستقلون عن السلطة التنفيذية..كما انبثقت عن الدستور مجالس أخرى كمجلس التجارة والحرب.. كان دستور 1861 امتدادا وقطيعة لعهد الأمان الذي صدر سنة 1857 إذ تضمن هذا العهد تَعهٌّد الباي بحماية امن وأملاك السكان على اختلاف أديانهم وجنسياتهم وضمان سلامتهم فكان وعدا بالالتزام بمضمون العهد نفسه، في حين مَثّل دستور 1861 مشروع عمل حدد ممارسة السلطة وضبط فصولِِ ذات علاقة بالسيادة. ويمثل هذا الانجاز الدستوري ثمرات من ثمرات الحركة الفكرية التنويرية في أوروبا الغربية غيرا انه مثّل،في نفس الوقت،احد مظاهر التدخل الأجنبي الذي مارسته القنصليات الأوروبية المنتصبة في البلاد التونسية آنذاك واحد أشكال الضغط التي مارستها القوى الاستعمارية الأوروبية الصاعدة على حكام البلاد التونسية للقيام بهذه الإصلاحات بهدف ضمان مصالح جاليتها وفتح أسواق البلاد لبضائعها ورؤوس أموالها، ورغم ذلك لقي هذا الانجاز استحسان النخبة التونسية التي سعت من خلاله إلى تجسيد التنظيمات السياسية الأوروبية وفرصة لإصلاح نظام الحكم بالبلاد غير ان تلك الإصلاحات الدستورية جاءت متأخرة نسبيا ذلك أن حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وسيطرة مصطفى خزندار على دواليب الحكم من جهة أخرى قد همّشا تلك الإصلاحات ثم أجهزت عليها مما ساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وأدى إلى اندلاع انتفاضة 1864 فاغتنم محمد الصادق باي انتشار الفوضى التي عمت البلاد فعلّق المجالس وأمر بإيقاف العمل بالدستور في نفس السنة... لم يهتم الاحتلال الفرنسي للبلاد التونسية بهذا الإرث الدستوري،غير ان الحركة الوطنية التونسية اعتمدته كمرجع فكري ووظفته في نضالها ضد الاستعمار الفرنسي واستمد أول حزب سياسي تونسي منذ سنة 1920 اسمه من هذا الإرث «الحزب الحر الدستوري التونسي» كما حافظ المنشقون عن الحزب سنة 1934 على نفس الاسم مع إضافة صفة «الديوان السياسي». وكان مطلب «برلمان تونسي»أهم المطالب والشعارات التي رفعتها الجماهير الشعبية في أول مواجهة عنيفة مع السلطة الاستعمارية وذلك في 9 افريل/نيسان 1938 وتواصل هذا المطلب حتى حصول البلاد على استقلالها... وبعد الاستقلال الداخلي تحقق أمل التونسيين بعد ان صادق المجلس القومي التأسيسي على دستور جديد للبلاد التونسية تم الإعلان عنه في أول جوان/حزيران 1959 من قبل رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة غير ان النظام الذي أسسه بورقيبة، اعتمادا على الدستور كان نظاما غير ديمقراطي بامتياز برغم وجود دستور ومؤسسات النظام الديمقراطي. إذ نصّ الدستور في عدة فصول منه وأقرّ مجموعة من الحريات الفردية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وأحال الأمر إلى القانون لترتيب تلك الحريات وتنظيمها «تقنيا».وقد نبه بعض المثقفين الدستوريين،في وقته، لخطورة النظام البرلماني الذي أُقرّ بالبلاد وذلك نتيجة «وجود بورقيبة» الذي سيعطّل السير العادي لهذا النظام،حسب رأيه، «ما لم يكن للبرلمان إمكانية عزل رئيس الجمهوري» معتبرا أن ذلك سيؤدي إلى إرساء «تقليد سيّئ طالما ظلّ بورقيبة في الحكم» كما رأى احد الباحثين أن «الدستور الذي صُوّتَ عليه لم يكن سوى «ديكور» براق». وفي عهد بورقيبة أجريت على الدستور التونسي ستّة تعديلات لعل أهمها تعديل 19 مارس 1975 المتعلق بتنقيح الفصلين 40 و51 وذلك لإقرار الرئاسة مدى الحياة، فتحوّل بذلك النظام الجمهوري إلى نظام «جمهورية ملكية» بالإضافة إلى تعديل 8 أفريل/نيسان 1976، الذي شمل بالخصوص رقابة مجلس الأمة (البرلمان)على الحكومة (لائحة اللوم) كما مكّن رئيس الجمهورية من حلّ المجلس... وتحول الدستور بعد وصول زين العابدين بن على إلى السلطة يوم 7 نوفمبر 1987، حسب بعض المختصين، إلى «خرقة» لا يتردد مهندسون مختصون في القانون الدستوري في تفصيل بنوده التي كرّست استمرارية الرجل في الحكم مدى الحياة دون الحاجة للإعلان عن ذلك بصريح العبارة في الدستور. ودون الدخول في تفاصيل تلك التعديلات الكثيرة، التي أجريت على الدستور التونسي منذ وصول بن علي إلى السلطة، نذكر أن التعديل الأول الذي صدر في هذا العهد تعلق بحذف بند الرئاسة مدى الحياة وإلغاء الخلافة الآلية وذلك حتى يعطي لنظامه الجديد بعضا من الشرعية على حساب الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وفي سياق التعديلات الدستورية سنة 2002 تم الإقرار باستفتاء شعبي طبقا للمادة 76 من الدستور الذي أجاز للرئيس الدعوة إلى إجراء مثل هذا الاستفتاء،كما نصت التعديلات على إلغاء حصر الترشح لثلاث ولايات رئاسية فقط، وهو ما مكن الرئيس بن علي من الترشح لولاية رابعة سنة 2004، وأتاح له إمكانية ذلك في انتخابات سنة 2009.كما تم رفع سن الترشيح لمنصب الرئاسة إلى 75 سنة عوض 70 سنة كما كان سابقا، كما نص عليه الفصل 40 من الدستور كما كرّست التعديلات المدخلة على نفس الفصل الأخير من الدستور تعددية الترشحات لرئاسة الجمهورية المتعلق بمزيد دفع المسار الديمقراطي وتدعيم المؤسسات الدستورية،ظاهريا، وتفعيل دور الأحزاب. .وكان تعديل القانون الدستوري المؤرخ في 27 سبتمبر/ ايلول1997 الذي حدّد دور الأحزاب السياسية في الحياة العامّة ووسّع مجال اللجوء إلى الاستفتاء فيما يتعلق بالمسائل المصيريّة التي تهمّ مستقبل البلاد.ووافق مجلس النواب وبصفة استثنائية في أفريل/ نيسان 2008 على مشروع قانون يتعلق بتنقيح الفقرة الثالثة من الدستور لتمكين المسؤول الأول عن كل حزب من الترشح للانتخابات الرئاسية لسنة (2009) سواء كان رئيسا أوأمينا عاما أو أمينا أول لحزبه شريطة أن يكون منتخبا لتلك المسؤولية وأن يكون يوم تقديم مطلب ترشحه مباشرا لها منذ مدة لا تقل عن سنتين متتاليتين على انتخابه لها، وقد فصّل هذا خصيصا لاستهداف احد الشخصيات الوطنية المعارضة حتى لا يترشح للرئاسة وينافس الرئيس المخلوع... ثم توالت التعديلات وكان من أهدافها المُعلنة خلق واجهات ديمقراطية شكلية تعدّديّة وتلميع صورة النظام في الخارج تفتقد لأي مضمون فعليّ يتوافق وأهم المطالب الشعبية الشرعية... اليوم، والتونسيون يعيشون مخاض هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والدقيقة والحساسة التي ستحدد مستقبل البلاد ومصيرها في انتظار ما ستعلن عنه لجنة الإصلاحات الدستورية والسياسية من قرارات هامة حريّ بالتونسيين وبلجنة الإصلاحات السياسية والدستورية خاصة، أن تقف وقفة تستعيد فيها السياق التاريخي للتجربة الدستورية التونسية كما تجلّت في الواقع وحريّ بتلك اللجنة ان تستمع الى مطلب قطاع واسع من النخبة والجماهير العريضة، التي عمّدت بدمائها الزكية الثورة الشعبية النوعية في التاريخ البشري، الطامحة لتشكيل مجلس تأسيسي لصياغة دستور جديد وتأسيس نظام ديمقراطي برلماني ممثل تتقلص فيه صلاحيات رئيس الجمهورية إلى ابعد الحدود.. لا شك ان الغاية من استعادة ذكرى ميلاد فكرة الدستور في الوعي السياسي التونسي،قبل قرن ونصف من الآن، هي بالأساس الاستفادة من الخبرة التاريخية للتراث السياسي والدستوري للشعب التونسي في هذه المرحلة الانتقالية والمفصلية التي تمر بها البلاد، إذ لا غنى للسياسة،والسياسيين، عن دروس التاريخ وتجاربه المختلفة سواء تلك التي تعلقت بالتجارب الوطنية أوغيرها من التجارب الإنسانية عامة.. الأمر الذي قد يساعد على استشراف المستقبل بوضوح أكثر باعتبار ان احد أسباب فشل الكثير من تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم كان نتيجة اصطدامها ب«الشرك الدستوري» الذي أغلق أمامها آفاق التحقق والنمو والتطور... ٭ د. عبد اللطيف الحناشي كلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة [email protected]