بين القبّة والقصبة حرف واحد ومسافة لا تتعدى بضعة كيلومترات، لكن بين رمزية كل مكان وبين «المعتصمين» هنا وهناك مسافة شاسعة من العقلانية والنجاعة والقدرة على الفعل وعلى تغيير الوضع الذي لا يسرّ أحدا في البلد... لن ندخل في التفاصيل ولن نثير تساؤلات حول الجهات التي تقف وراء اعتضام القصبة ولا عن مدى إدراك أولئك الشباب المعتصمين لخلفيات مطالبهم ولمعنى أن ينادوا بمجلس تأسيسي وبإسقاط النظام القائم حاليا برمّته وبكل رموزه ومنظومته الفكرية... ولن نناقش مدى مشروعية هذه المطالب ومدى واقعيتها والامكانات المتاحة لتطبيق هذه الرؤية ولكن ما يهمّنا هو الوضع الاقتصادي الهش الذي تعيشه تونس اليوم والمأزق الكبير الذي لابد من ايجاد مخرج عاجل له بتظافر كل الجهود وتسخير كل الطاقات. ولعل ما يُحسب لمعتصمي القبّة في هذا الباب أن تحرّكهم كان من هذا المنطلق، فكل من تحدّث ليبرر سبب وجوده هناك أقنع وحمل رسائل قويّة تحث على ضرورة النهوض بالبلد وترك الاحتجاجات والاضرابات جانبا بعد أن ثبت حجم الأضرار التي ألحقتها بالاقتصاد الوطني ولا شك أن الأرقام التي قدّمها البنك المركزي التونسي مؤخرا حول الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد تثير كثيرا من القلق. معتصمو القبّة وطائفة كبيرة ممن يشاطرونهم الرأي فهموا ان تونس اليوم في حاجة الى العمل لا الى موائد مستديرة تدار حولها نقاشات فارغة ولا الى موائد لتوزيع الحلويات والشأي لشبان منهم من ترك دراسته ومنهم من هجر عمله ومنهم من زهد في البحث عن عمل وحمّل نفسه عناء التنقّل الى القصبة للمشاركة في «احتفالية» اسقاط النظام. وما يُحسب لمعتصمي القبّة أيضا أنّهم أبدوا حرصا على العمل والبناء بالتوازي مع تجمّعهم هناك للمطالبة بالنهوض بالبلد (وهذه مهمّة تندرج في صلب العمل والواجب الوطني) وكانوا على قدر عال من الوعي بأن التغيير يأتي بالعمل لا بالكلام ورفع الشعارات. نحن لا نشكك في وطنية أي طرف ولكن نطلق أحكاما على النوايا والمقاصد والأفعال، ونقول بكل بساطة إن من يحب تونس فإن تونس تناديه اليوم وهي تحتاجه أكثر من أي وقت مضى فليُلبّ النداء، وإن من تعلّق قلبه بحب هذا الوطن العزيز فليخدمه... «بعينيه».