أطلقت الطبقة السياسية على المعتصمين بقبّة المنزه صفة القاعدة الصامتة أو كما عبّر عنها الوزير الأول الأسبق «الأغلبية الصامتة» دون أن تكون في الحقيقة أغلبية حقيقية، ومع ذلك فقد كانت تعبيرة مختلطة التركيبة من الزاويتين الاجتماعية والسياسية وهي ليست مجرّد حركة احتجاجية عفوية ذات مطالب حينية تدعو الى الاستقرار والعودة الى العمل فقط بقدر ما سنراها تتجاوز شعاراتها الظرفية تلك الى تصور سياسي أشمل وأعمق. فهذه الحركة الاعتصامية التي فقدت مبرّرات وجودها بحلّ اجتماع القصبة لم ترض بأن تبقى حبيسة شعار ظرفي وبدأت تبحث عن أجندا جديدة للتأثير في مشهد سياسي يتسم بما يلي: غياب كلي لبدائل عن التجمع الذي ضربت الثورة أركانه وأحجمت قاعدته الواسعة عن فعل سياسي منظم بفعل تكلّس هذا الحزب لعدّة عقود. عجز بعض الأحزاب على غرار التقدّمي والتجديد في استقطاب معتصمي المنزه ليس بحكم مشاركتهم في الحكومة السابقة فقط، بل بحكم غياب أو على الأقل عدم اطلاع هذه الشرائح على برامج تلك الأحزاب وتحديد تعبيرتها السياسية: يمين يسار، وسط اليمين أو وسط اليسار.. فضلا عن ضبابية المشهد السياسي في البلاد بصورة عامة. بعد أطروحات جبهة 14 جانفي وخاصة على مستوى البرامج الاقتصادية عن تصوّرات معتصمي المنزه المشكلين في أغلبهم من أصحاب مؤسسات متوسطية وكبرى وكوادر عليا لا ترى نفسها في برامج الجبهة القريبة بالأساس من فكر الطبقة العاملة والبرجوازية الصغرى والمدافعة عن خيارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. وجود هوّة حقيقية بين تلك الشرائح والفئات على المستوى الفكري وبين حركة النهضة. فهذه الفئة المتمسكة بمفاهيم الحداثة وبالديمقراطية على النمط الغربي لا تجد نفسها في برامج حركة النهضة مهما طوّرت هذه الأخيرة جهازها المفاهيمي وبرامجها الى أقصى الحدود اللّهم أن تتخلى عن أيديولوجيتها الاسلامية وذاك أمر آخر. عجز مصطفى بن جعفر وحزبه رغم «كاريزما» الرجل عن تقديم نفسه كحزب جماهيري بل أنه بدا «سكتاريا» أحيانا أو خجولا في توسيع قاعدته الجماهيرية بالانفتاح على هذه الشرائح، هذا اضافة طبعا الى عجز الأحزاب الأخرى غير المعروفة لدى الشعب والتي شكلت بعد ثورة 14 جانفي وليس لها امتداد جماهيري أو فعل حقيقي في الواقع. هذه الظروف الموضوعية العامة هي التي تشكل الأساس الموضوعي لقيام تعبيرة سياسية جديدة قد تكون الوسط أو ربما يمين الوسط إذا ما أضفنا إلى ذلك بعض المعطيات الأخرى حول الملامح السياسية لهذه الفئة التي لم تعد صامتة ومنها بالخصوص: تنظيم اتحاد الصناعة والتجارة مسيرة مساندة لاعتصام المنزه، اضافة الى وجود أعداد هامة من منخرطي التجمّع في هذه الحركة حتى بدا وكأن الأمر يتعلق بمجموعات متباينة فكريّا ومتقاربة اجتماعيا ولكنها متفقة تماما على أن المشهد السياسي الحالي بعناصره التي تحدّثنا عنها سابقا لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن أفكار وتوجّهات هؤلاء. هذا من الزاوية الموضوعية العامة. أما من زاوية الوقائع والمعطيات، فإن هناك نقاشات وتجاذبات وارهاصات لتكوين حزب سياسي جديد، وهناك أرضيات عمل وبرامج بدأت تُصاغ. بقي السؤال الأهم أين قيادات التجمّع من هؤلاء؟ هل سيكون المحتجون في المنزه على موعد تاريخي مع تشكيل حزب جديد يستجيب لقاعدة التجمعيين العاديين ويقطع مع التجمّع كفكر وسياسة وممارسة؟ أم سيعود التجمّع للدخول من الشباك لهذه الفئةالاجتماعية التي لم ينتم إليها جزء كبير من معتصمي المنزه؟ بهذا المعنى يمكن أن نفهم «الأغلبية الصامتة» التي تحدث عنها الوزير الأول الأسبق «الغنوشي» فلا يمكن أن يذهب في اعتقادنا أن آخر كلماته تلك كانت بريئة الىالحدّ الذي نقتنع معه بأن تلك الفئة «الصامتة» حقا.. هاهي تتكلم وتفصح عن نفسها أكثر وسنرى في الأيام القادمة هويتها السياسية واضحة وسنقتنع بأنها لم تكن «صامتة» أبدا.