قدّم مُعتصِمُو القصبة درسًا بطوليًّا آخر في الثقافة السياسيّة النابعة من الممارسة لا من التنظير. واستجاب خطاب الحكومة المؤقّتة الجديدة لأغلب مطالبهم، إلاّ أنّه ركّز على جوانب معيّنة من بينها تلازم الأمن والسياسة، معتبرًا أنّ المرحلة الانتقاليّة الراهنة مشروطة باستتباب الأمن. وقد يتعيّن التوقّف بعض الشيء عند هذا الثنائيّ الذي كثيرًا ما ارتبط بالشيء ونقيضه. فالأمن ضروريّ لا شكّ في ذلك. لكن عن أيّ أمنٍ وعن أمنِ مَنْ نتحدّث؟ فقد ظلّ الأمن طيلة عقود حكرًا على الحاكم. كما ظلّ مفهومه خاضعًا حتى الآن إلى الرؤية الاستبداديّة التي حدّدت مختلف نصوص النظام البائد وآليّاته. ولابدّ من إعادة تحديد مفهوم الأمن في ضوء الثورة كي لا يتناقض مع الحريّة. لقد بدا الأمنُ على امتداد عقود شبيهًا بالفزّاعة تُرفَع لإخماد كلّ تحرّك شعبيّ للمطالبة بحقّ من الحقوق. لا فرق في ذلك بين من يتحرّك رفضًا للقمع السياسيّ ومن يتحرّك رفضًا للفقر. وهذا ما أريد الإلحاح عليه. فقد «تَمَأْسَسَ» الفقر طيلة العهد البائد وتحوّل إلى جزء من منظومة القمع والاستبداد. وليس من شكّ في أنّ الأب بيار لو عاش بيننا اليوم لتمّ اعتبارُهُ خطرًا على الأمن. خاصّة لو أنّه كرّر ما فعله في شتاء باريس 1954 القاسي حين أطلق إعلانه الشهير من أجل التضامن داعيًا إلى نوع من العصيان الخيريّ على غرار العصيان المدنيّ. ألحُّ هنا على مسألة الفقر لأنّها في نظري مسألة جوهريّة، بدون معالجتها بما هو عاجل في انتظار ما هو آجل، قد يبدو كلّ حراك سياسيّ استمرارًا في تغييب الشعب من الصورة وتجاهلاً له. تغييب قد يكون سببا من أسباب الانفجار بعد الثورة مثلما كان سببا من أسباب الانفجار قبلها. منذ سنوات وعقود والأسطوانة الرسميّة المشروخة تردّد أنّ تونس لا تعاني الفقر وأنّ الطبقة الوسطى تمثّل أغلبيّة المجتمع. محاولةً البرهنة بترسانة من الإحصائيّات والمفاهيم على أن لا وجود في الواقع التونسيّ لذلك الشرخ الكبير الذي تعرفه أغلب بلاد العالم التابع المُهمّش، والذي يفصل بين أقلّية شديدة الثراء وأكثريّة فادحة الفقر. في هذا السياق بدت مسألة الفقر في تونس دائمًا مسألة أمنيّة بل جزءًا من أمن الدولة. وخضعت الاستبيانات والإحصائيّات والتقارير المتعلّقة بهذا المجال إلى رقابة لا تقلّ صرامة عن الرقابة المسلّطة على غيرها من المجالات. وزاد الطين بلّة انخراط عدد من المنظّمات الدوليّة في تدعيم الرؤية الرسميّة المضلِّلة، بدوافع مختلفة، من بينها التواطؤ الكامل بين رأس المال العالميّ المتوحّش والأنظمة الاستبداديّة. من الأمثلة على هذا التلاعب والتضليل ما ذهب إليه بعض الأجانب في مساندتهم للنظام التونسيّ المخلوع من إشارة إلى أنّ التونسيّين لا يموتون جوعًا وأنّهم يذهبون إلى المدارس أكثر من غيرهم! وكأنّ الفرق بين الحيوان والإنسان بعد سدّ الرمق هو الذهاب إلى المدرسة! كلام متهافت شكلاً ومضمونًا. فضلاً عن أنّ سدّ الرمق ليس نقيضًا للفقر. وإذا كان التونسيّ الذي نُهبت ثروتُه قد وجد ما يسدّ رمقه أحيانًا فالفضل في ذلك عائدٌ إلى التكافل الاجتماعي وليس عائدًا إلى حسن إدارة الدولة لدفّة الاقتصاد. أمّا بالنسبة إلى التعلّم فقد أقبل التونسيّون عليه حقًّا وبنسبة كبيرة ولأسباب عديدة، لعلّ من بينها أنّ الدراسة بُعْدٌ من أبعاد المصعد الاجتماعيّ أي طريقة من طرُق التخلّص من الفقر. وتفيد إحصائيّات عديدة أنّ تسعين بالمائة ممّن هم في سنّ الدراسة من الأطفال التونسيّين يلتحقون بالمدارس. لكنّ تقارير أخرى تفيد أيضًا أنّ تونس شهدت سنة 2009 على سبيل المثال، انقطاع نحو سبعين ألف طفل عن التعلّم بسبب الفقر وأنّ هذه الظاهرة ظلّت تتفاقم باستمرار. ثمّة فقر إذنْ. ومن علامات الثورات أنّها تعيد الاعتبار إلى الفقراء بعد أن يحاول المستبدّون تحويلهم إلى كائنات متوارية غير مرئيّة. فالفقر ليس قدَرًا. ومن علامات الثورات أنّها تعيد إلى الفقراء كرامتهم وتعلّمهم كيف يطالبون بحقوقهم وكيف يساهمون في تغيير واقعهم وكيف لا يخجلون بأنفسهم بينما الثراء يمشي في الأرض مرحًا. هؤلاء صبروا كثيرًا ونفدت لديهم طاقة الصبر لذلك فجّروا الثورة. ومن الصعب إقناعهم بضرورة الأمن إذا لم يتواز ذلك مع حلول فوريّة لمشاكلهم العاجلة. وهو ما على الحكومة المؤقّتة أن تبادر به مستفيدة من وعي هذا الشارع السياسيّ الشعبيّ الذي منحها فرصة لكنّه لم يمنحها صكًّا على بياض. هؤلاء يعرفون أنّ استئصال الفقر ممكن عن طريق تحديد الخيارات الكبرى السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وهم يعرفون أنّ ذلك يتطلّب وقتًا. وأنّ المرحلة الحاليّة انتقاليّة. وأنّ عليهم المزيد من الصبر. لكنّ تجديد طاقة الصبر لديهم مرتبطٌ بقدرة السياسيّين على إرسال رسائل واتّخاذ إجراءات اقتصاديّة واجتماعيّة عاجلة (وإن وقتيّة)، يكون استتباب الأمن نتيجتها الطبيعيّة لا شرطًا مسبقًا لها؟