إن الابتعاد عن المنطق الشكلي في معالجة القضايا باسم الثورة هو من الغرابة بمكان، ذلك انه لأول مرة أرى أستاذا مختصا في القانون يدعو الى الخروج عن القانون والى عدم تطبيق قواعده لإرساء العدالة. إني أرى أن صاحب المقال بدعوته الى الابتعاد عن الاجراءات وعدم الالتفات الى القوانين الاجرائية لا يمكن أن يفسّر بغير عدم فهم كنه الثورة التي وإن كانت تهدف الى القطع مع النظام الاستبدادي فإنها وبالتوازي مع ذلك تنشد بالضرورة ارساء دولة القانون والمؤسسات التي تعني فيما تعنيه الاحتكام الى القانون ولا شيء سواه بدل الدعوة الى الفوضى والتأسيس لثقافة حكم الشارع ولسياسة التشفي والانتقام والرجوع من جديد الى الديكتاتورية بل إني أريد أن أذهب الى أبعد من ذلك وأذكره بأن القوانين الشكلية جميعها بما ذلك مجلة المرافعات المدنية والتجارية الصادرة بموجب القانون عدد 130 لسنة 1959 المؤرخ في 5 أكتوبر 1959 وكذلك قانون المرافعات الجنائي الصادر بموجب الأمر المؤرخ في 30 ديسمبر 1921 والذي ألغي بصدور مجلة الاجراءات الجزائية بمقتضى القانون عدد 23 لسنة 1968 المؤرخ في 24 جويلية 1968 كان كلها نتاجا للفكر القانوني الانساني الغربي وخاصة الثورة الفرنسية التي أرادت ان تقطع مع الماضي القضائي الاستبدادي عبر سن قوانين اجرائية تضمن الحقوق وتعبّد الطريق للوصول اليها تحت تأثير فلاسفة الأنوار . كما ان محكمة الثورة التي يطالب بها صاحب المقال والتي أحدثت أثناء قيام الجمهورية الاولى الفرنسية لتصفية ما يسمى بأعداء الثورة جاءت في ظروف تاريخية معينة وكانت أحكاما تفتقر الى أبسط الضمانات القانونية ولا تقبل الطعن لا بالاستئناف ولا بالتعقيب الامر الذي جعل العديد من الدارسين يعتبرونها بالاضافة الى وصول نابوليون الى السلطة من أبرز الأسباب التي جعلت الثورة الفرنسية مثالا سيئا لثورات الشعوب ورغبتها في التحرر من العبودية والاستبداد على عكس ثورتي اسبانيا والبرتغال مثلا اللتين اعتبرتا نموذجا يحتذى لقدرتهما على الانتقال السلمي والمباشر للديمقراطي فهل بمثل هذا نريد ان نؤسس لدولة القانون والمؤسسات؟ لقد خلص صاحب المقال الى أنه كان أولى بالقضاة ان يطلبوا الصفح بدل المطالبة بتعهيدهم بملفات الأحداث الاخيرة وهو رأي يتسم بقصر النظر وعدم الإلمام بمعطيات الأحداث باعتبار ان القضاة كانوا أبعد منه نظرا اذا تجاوزوا ذلك الطلب ولم يرتضوا بمجرد الاعتذار من الفاسدين منهم وممن كانوا بيادق بيد النظام السابق بل انهم طالبوا بفتح الملفات ومحاسبة الفاسدين واجراء التحقيقات اللازمة معهم حتى يمكن تطهير القطاع من زمرة تحمل القضاة في عدة مناسبات وبلاغات لعل أهمها البلاغ الصادر بتاريخ 5/2/2011 وكذلك بمناسبة الوقفة الاحتجاجية التي قام بها القضاة بتاريخ 12/02/2011 والتي كان شعارها «يوم تحرير القضاء من الوصاية واستئصال الفساد» والتي حضرها ما يزيد على ألف قاض... إن ما تشهده الساحة الاعلامية اليوم من تهجم على القضاة جميعهم ومن شن حملة على القطاع بأكمله والتشهير به بدون تمييز فيه من الحيف والظلم الشيء الكثير للقضاة الشرفاء الذين وقفوا في وجه النظام السابق واختاروا خوفا من الله وارضاءً للضمير الانحياز الى الحق في مواجهة قوى الظل والاستبداد وخاصة داخل الجهات حيث كان لمحكمة سوسة الابتدائية مثلا وخاصة جهاز النيابة العمومية مواقف سيذكرها التاريخ ويشهد عليها محامو الدائرة المذكورة وكذلك المحاميات المنتميات لجمعية النساء الديمقراطيات وأمثال ذلك كثيرون فكم من قاض أجبر على الاستقالة حتى لا تدنس يديه بذنوب النظام وكم من قاض تحمل مشقة التنقل والسفر من شمال البلاد الى جنوبها في سبيل اعلاء كلمة الحق وعدم الاذعان للنظام وكم من شريف جمد ولم ينل حظه من الترقيات عقابا له على مواقفه المبدئية فهل هذا جزاؤهم؟ سادتي الكرام لقد كان تاريخ القضاء ومازال حافلا بالنضالات وبالوقوف في وجه السلطة التي سعت دائما الى الهيمنة عليه وحشره في صراعاتها مع خصومها وجعله أداة لضرب كل من يخالفها الرأي وذلك بداية من جمعية القضاة الشبان ومع حصل لها مع الوزير الاول الاسبق محمد مزالي مرورا بنظام الرئيس المخلوع وما فعله السيد مختار اليحياوي خلال سنة 2001 حينما كشف له عبر رسالة وجهها له عن الواقع المتردي للقضاء وما تبع ذلك من صدور بيان 19 جويلية 2001 الذي كيّف تهكمات الأمين العام الاسبق لحزب النظام على انه قذف بالمفهوم القانوني للعبارة علاوة على بيان 2 مارس 2005 المساند لمحمد عبو وصولا الى ما حصل بالجلسة العامة الاستثنائية التامة يوم 3 جويلية 2005 من قيام السلطة بعملية انقلابية مفضوحة المعالم على المكتب الشرعي لجمعية القضاة المنتخب ديمقراطيا في المؤتمر العاشر في ديسمبر 2004 وما أنجر عن ذلك من تشريد وتهجير ونقل تعسفية وقطع للأجور وغيرها من أساليب الترهيب دون ان ننسى المطالبة بإصدار قانون أساسي جديد للقضاة يضمن استقلالية القضاء ويؤشر لبداية عهد جديد وهو المطلب الذي ظل ثابتا وتصدر أولويات مطالب القضاة على اختلاف هيئاتهم التمثيلية. لقد كان لعصابة السراق من يدافع عنهم داخل أروقة المحاكم وخارجها وكانوا بمثابة الجهة التي تضفي الشرعية على جرائمهم وعلى امتصاصهم لدماء المقهورين واغتصابهم لحقوق الشعب، كما كان لحزب النظام متمعشون من خيراته يدافعون عن ظلمه وجرائمه ضاربين عرض الحائط بأخلاقيات المهنة وأصولها ومع ذلك لم يتجرأ من يستغل المنابر الاعلامية لمهاجمة القضاة والركوب على الثورة على المطالبة بتطهير قطاعهم من الانتهازيين ومصّاصي الدماء. لقد كان للقضاة شرف المطالبة بتطهير قطاعهم وفتح التحقيقات اللازمة ومحاسبة الفاسدين فيه فكيف لغيرهم ان يكون لهم هذا الشرف أم أن الراغبة في تصفية الحسابات الشخصية تحول دون ذلك؟ ٭ بقلم : صلاح الشيحاوي (مستشار بمحكمة الاستئناف بصفاقس)